لاحت بوارق عشقه من جديد في سمائي وتدلّت عناقيد الوله تغري أنوثتي وتثير فيّ كوامن الرّوح فأسمع وجيب الرّغبة في أعماقي وفي نبضات دمي . هذا الوجيب الرّاشح بالحزن والمرارة مذ حملتني رياح الغياب بعيدا عنه ونصبت لي مناف لا عودة منها
تهت وراء أحلام وضّاءة طافت بي بعيدا ثم ألقت بي في سراديب السّراب وغياهب الدّجى
موغل في العذاب رنين صوته الآتي من بعيد .من وراء البحار...
كانت أصوات الموسيقى والضّحكات و هسيس قبلات العاشقين تزيد من شجوني وأنا واقفة على حافة الذّهول.... على مقعد خشبيّ بميناء المدينة حيث أبقى لساعات طويلة بين هدير البحر وخفقان الطّيور وإيقاع نبضي...
لا أفقه حقيقة ما أنا فيه ولا أجد لي مخرجا من مصابي الجلل فيمتزج الخيال باليقين ويستحيل الغروب موكبا للذّكرى وهي ترفل في ثوب الاشتياق و الحنين.
ها هو اللّيل يقبل ليسدل ظلامه على الكون وليلفّ بغلالته السّوداء قلبي الصّغير ...فأحدّق في السّماء فلا أرى نجمة ولا بدرا وتسري في عروقي وحشة غريبة وتلسع وجهي نسمات الشتاء الباردة فأغادر المكان و الحسرة تملأ قلبي....
وأسير في الشّارع المقفر مواجهة ريحا عاتية تصفع وجهي وتلسع ساقيّ وتتسرّب تحت معطفي ..فيرتعش جسمي وأهرول مسرعة إلى بيتي وقلبي يقطر حزنا وكآبة....وتستقبلني أمي بعبارات اللّوم والتّقريع " إلى متى يا ابنتي ستظلّين هكذا ؟ ألا تملّين من الانتظار ؟ ماذا دهاك ؟ عهدتك قوّية وراجحة الفكر .اهتمّي بنفسك ودعي الماضي فالحياة تستمرّ.....
ولكنّي أعود كلّ يوم لأجلس على ذلك المقعد قبالة البحر، أرقب عودته . لعلّه يعود يوما في أحد المراكب القادمة من الشّمال . لعلّه نجا من الموت ووصل إلى برّ الأمان ولم يكن طعاما للأسماك والحيتان في أعماق البحر في رحلته الغير شرعيّة إلى المجهول ...
ماذا دهاه ليستهين بحياته وبحبّي؟ وكيف عنّت له نفسه تركي على حافة الانتظار وعلى سعير الحيرة والقلق ؟
لماذا لم يشفق على قلبي المسكين الذي أحبّه ووهبه نبضه وحسّه وعطره و كلّ شيء جميل لديه ولم يجد منه إلاّ النّكران والهوان ؟ ألا يعلم أنّه ترك لي جنينا في بطني يكبر يوما بعد يوم ؟ هذا الجنين نتاج حبّ عظيم نما وترعرع بيننا فكان أن أسلمته نفسي ووهبته أعزّ ما أملك ولكنّه رحل في اليوم الذي كنت سأخبره فيه بأمر حملي منه وقد كان هذا من سوء حظّي ومن أسباب تعاستي وحيرتي الملتاعة...
مضى شهران على رحيله المفاجئ الغريب وبدون تمهيد ولا مقدمات . كنّا معا ليلتها نجلس على هذا المقعد المواجه للبحر وأضواء الميناء تتراقص على وجه الماء بألوانها الجميلة ليرسم انعكاسها صورة كنّا نراها بعيون القلب زاهية رقراقة فنبتهج لها ونذوب من شدة الوجد ويمسك يدي في يديه بكل رقّة و حنان ويهمس في أذني بمعسول الكلام فأبتسم ويخفق قلبي الصّغير وتزداد ضرباته بين الضّلوع ورغم كل ذلك الحبّ أحسست بإحساس غريب..
كان وكأنّه يودعني و كأنّه يحاول أن يشبع منّي حتى أنه طبع قبلة على جبيني ثم تمادي ونزل بقبلة أخرى على شفتيّ...لم أستطع منعه . كنت مسلوبة الإرادة أشتمّ رائحته وأغمض عيني . شيء ما في صدري يقول لي أنّي لن أراه بعد تلك الليلة وذلك اللقاء ....
لملمت شتات الرّوح ونهضت لأعود إلى البيت والقلب كسير بعد أن مرّت ساعتان وأنا على هذا المقعد مثل ما تعوّدت أن أفعل كل يوم. لم أيأس يوما ولم أتأخّر عن موعدي مع البحر ومع أمل الرجوع ...
اسألوا البحر يخبركم عن لوعتي وعذابي ...عن حنيني و اغترابي ...عن دموع مزجتها بملحه فقرّحت عينيّ .كم شكوته حزني وآلامي . كم بثثته أشجاني . كنت سمعت وشوشات أمواجه تردّ عليّ وتواسيني ...
وكنت أمد بصري الى زرقته فأحسّ بارتياح ويهدأ بالي وتسكن حيرتي فأستمدّ منه قوّتي وجلدي .....سيعود حبيبي يوما ....هكذا قال لي البحر ...ولكنّه لم يعد ....
وبدأت علامات الحمل تظهر على سلوكي وعلى جسمي وزادت حيرتي وقلقي حتّى فقدت أعصابي ولم اعد أذهب إلى كلّيتي ولزمت البيت مدّعية المرض والإرهاق ...
ماذا افعل بجرمي ؟ كيف أداري خطيئتي وعاري ؟ هل أجلب لعائلتي الأذى وسوء السّمعة ؟
لابدّ وأنّ الجميع قد عرفوا أنّ خطيبي الذي قرأ فاتحتي مع أهلي قد تركني ورحل....ولكنّهم لا يعلمون أمر خيبتي..
الآن سيعلمون وسينتشر الخبر كالنّار في الهشيم وأبقى أضحوكة الحيّ والمجتمع والنّاس.لا بدّ أن أهرب وأختفي لابدّ أن أجد حلا لمصيبتي أو أن يكون الموت سترا لي يطوي معه الفضيحة في القبر
اتصلت بي صديقتي رجاء تسأل عني وعن أخباري وعن سبب غيابي عن المحاضرات .طلبت مقابلتها بعيدا عن البيت وعن أعين الأصدقاء وقد كانت محلّ ثقتي ومكمن أسراري
وبحت لها بسرّي وبما حملته في صدري ما يزيد عن الشّهرين ...
صدمت صديقتي بالخبر ولم تشأ تأنيبي وأشفقت على حالي وما آل إليه أمري ولكنّها صمتت مفكّرة بعض الوقت لتعود وتسألني .."قلتِ أنّه رحل من ميناء صفاقس ؟ قبل شهرين ؟
قلت :" نعم هكذا علمت بالخبر من بعض الشّبان الذين لمحوه "
قالت بلهجة تنم عن شكّ وريبة :" أظنّه يا عزيزتي لم يسافر أو أنّه لم يتمكّن من السّفر فقد سمعتُ أخي مرة يتحدث عن هذه الرّحلة الغير شرعية إلى ايطاليا والتي تمكّن أعوان الأمن من إفشالها و زجّ بعناصر المهربين والمشاركين فيها بالسّجن .
تلقيت الخبر كصفعة أفقدتني صوابي و شلّت قدرتي على التفكير لهول المفاجأة ثم انفرجت أساريري عن هاجس مبهج .
بقيت ليلة فارقني فيها الكرى وألهبت أجفاني حرقة السّهاد والتّفكير ...
وفي الفجر ما إن بدأت أشعّة الشّمس تنتشر في الأفق حتى نهضت مسرعة و عقدت العزم على السّفر والسّؤال عنه في السّجون وفي كلّ مكان . لعلي أجد قبسا من النّور يضيء لي عتمة أيامي القادمة ....
ذات صباح ربيعي حصلت على إذن المحكمة باللقاء . عرفت مكان سجنه . قصدته . أصررت على مقابلته و لكن صدمتي كانت فوق الخيال و التصور . لقد رفض مقابلتي . أعلمت السجّان أنّ لي ابنا منه . ذهب لإعلامه و عاد خائبا . قال بحسرة كبيرة : " ارحلي يا ابنتي . هذا الرجل ليس من نصيبك . حالة اليأس التي هو فيها جعلته يرفض المسؤولية بل يخافها . يقول أنه لا يثق في امرأة تسلّم نفسها لرجل قبل الزواج حتى و إن كان يحبها و تحبه و يقول أيضا أنه غير قادر على إعالة نفسه فما بالك بالآخرين وأنّ آفاق البلاد مسدودة و لا حلّ له إلا محاولة الهجرة ثانية وسيفعل حالما يصبح حرّا .