مسامير هذه الظهيرة، عالقة بقدمي، وتيارات الحدث لا زالت تنهش وجهي الصائم.
لم يكن يجري في عروقي إلا جوع الابتسامات..حتى أنني حاولت أن أقترض واحدة من قلبي، لكن ثغري كان يصرّ على أنني مصابة بسهم الخيبات، فتنط تقوسات الاستفهام من رأسي لتعلق بحلقي طوال فترة ابتلاع ساحة الحي الجامعي لجسدي المتهالك..
الفتاة النحيلة الشقراء، تتوسط كماً من الأصابع المشيرة إليها بالاتهامات :
_ كافرة! أنت كافرة.. رأيتك بأمّ عيني طيلة شهر رمضان تأكلين في الخفاء! (نعتتها زميلتها وقد احمر وجهها غضبا)
غادرتُ مسرعة علّني أفرغ سمعي، وأنعش وجهي المكهرب.
الأصوات المتراشقة لازالت تقتفي آثاري.. ووجه نرمين يسكن آلاف الأسئلة ويتعقبني.. شعرت لحظتها برغبة كبيرة في البكاء..عمق ضجت خلاله كل المعاني....
كنت أعلم أن نرمين أشبه بطفلة بعمر الخمس سنوات..رغم بلوغها سن العشرين..قلبها يحتاج إلى مضخة هواء ليتنفس..الهوة التي أسقطت قدمها داخلها، أعمق من أن ينتشلها الصراخ. والأفواه التي نهشت جسدها النحيل قبل قليل، ليتها قبلتها على جبينها عوض الصراخ والاتهام.. ليتها انتحت وإياها ركنا بعيدا ثالثهما نور الله..هناك..حيث مناسك الكلام صوم وعبادة.
عدت بنفس السرعة التي غادرت فيها رواق الحي الجامعي..ابتلعت قدماي سلالم الطابق العلوي وقد كسرّتُ كل الخوابي..لأغرق بعدها طويلا في وجه نرمين..وجه امتصّه الوجع بين وجوه الطالبات..وكنت طالبة تضم أصابعها العشر..تخفيها وراء ظهرها..كما حكم أخرس يقاضي ذاك التجمهر بعينين صامتتين..
علا الضجيج وتعاركت الحروف وتشابكت الأفواه والأعين..ولا شئ بالفناء يوحي بالهدنة..
أتأمل تفاصيل وجه "نرمين" المصفر..عيناها تتوسلان للضجيج أن يصمت..يداها ترتعشان وجسدها يكاد يتبرأ من ساقيها. الضجيج يلقي بتهمه النارية عليها كما قذائف جندي بلعبة الكترونية يديرها طفل متحمس للفوز..
وهذا المساء..حين احتوتني حجرتي بالحي الجامعي..اختبأت تحت صوت "إليسا" وبكيت في حضن نوتاتها طويلا..
كل ما استطعت فعله تلك الظهيرة بالفناء؛ مددت يدي نحو نرمين.... ضممتها إلى صدري..سكن الضجيج بعدها..سكن جسدها المرتعش..وبكيت على صدري طويلا..كما طفلة بعمر الخمس سنوات........