الممثل عثمان عريوات
الممثل الفذ: عثمان عريوات — مجلة النبراس

عثمان عريوات: السيرة والمسيرة الكاملة | مجلة النبراس

في جزائرٍ راجت فيها أصوات الثورة وتلوّنت بآمال الاستقلال، بزغ نجمٌ فريد لم يكن يوماً نجماً عابراً، بل صار رمزًا يُستعاد في كل لحظة مفصلية من الوعي الفني والثقافي. إنه عثمان عريوات، الذي اختار أن يمشي طريقه بشغف الكلمة الصادقة، لدرجة أن الجمهور بات يردد عباراته وكأنه يتنقل بين نصوصه ومواقفه كما لو كانوا يعرفونه منذ الأزل.

قصته ليست مجرد سيرة فنان؛ إنها شهادة على مقاومة القالب التجاري، رفض الاستغباء، والإصرار على أن الفن رسالة، لا سلعة تُباع وتشترى. هذا المقال ليس مجرد إحياء لاسم، بل محاولة لتفكيك أعماق شخصيةٍ أثرت في الوجدان الجماعي الجزائري، من البدايات المتواضعة إلى الهجرة نحو الذاكرة والعزلة، ومن أدوار بسيطة إلى أدوار خالدة، ومن غياب اختياري إلى عودة محتملة.


1. البدايات والنشأة: من أمدوكال إلى الجزائر العاصمة

وُلد عثمان عريوات في 24 سبتمبر 1948 في قرية أمدوكال بولاية باتنة (شرق الجزائر). نشأ في بيئة ريفية بسيطة، حيث كانت اللغة المحلية، التقاليد الشعبية، والحكايات اليومية تشكّل مادة الحياة اليومية. في سن العاشرة تقريبًا، انتقلت عائلته إلى العاصمة؛ لكن رغم هذا الانتقال، احتفظ عريوات لكنته وخصوصيته الريفية، وهي سمة بادية في معظم تجاربه الفنية اللاحقة.

عند مراهقته، بدأ يظهر شغفه بالتمثيل. وقد حصل على جائزة التّلفظ العربي/الفرنسي في المدرسة، مما جذب الانتباه إلى موهبته. لاحقًا، التحق بالكونسرفتوار بالعاصمة (بين 1969 و1972 تقريبًا) حيث تلقى تكوينًا مسرحيًا وتقنيات الأداء أمام الجمهور والكاميرا.

في تلك الفترة، تعامل مع كبار الممثلين والمسرحيين، وشارك في تجارب مسرحية وعروض فنية بسيطة، مما صنع الأساس لموهبته وقدرته على التماهي مع الشخصيات الشعبية والدرامية.


2. البزوغ الفني: بدايات على الشاشة والمسرح

بدأ عريوات رحلته في الفن مبكرًا، فقد شارك في فيلمه الأول عام 1963 بعنوان Le Résultat. لكن شهرته الحقيقية لم تتبلور إلا مع الأدوار التي مزجت بين التاريخ والقومية والكوميديا الاجتماعية.

أدوار تاريخية وبروز في المقاومة

من أبرز محطاته المسرحية والتمثيلية كانت تجسيده شخصية الشيخ بوعمامة في عمل تلفزيوني عام 1984، وهو بطل من المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي. هذا الدور منحه شهرة واسعة وارتبط اسمه به في الذاكرة الشعبية. كما حصل على ميدالية ذهبية عام 1985 في الأسبوع الثقافي في الاتحاد السوفياتي عن هذا العمل.

الكوميديا الاجتماعية والتحول إلى أيقونة

في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، بدأ عريوات يتوجه نحو الكوميديا التي تحمل رسائل نقدية. فيلم الطاكسي المخفي (1989) كان نقطة فاصلة في مسيرته، حيث جسد شخصية تتحرك بين الواقع والتناقض. كما شارك في أفلام مثل عائلة كي الناس و امرأتان، التي ساهمت في بروز شخصيته الجماهيرية عبر تجسيدها لمواقف يومية بسيطة، تمس وجدان الناس بشيء من الفكاهة والصدق.

ومع فيلمه الشهير كرنفال في دشرة (1994)، تجسدت قدرة عثمان عريوات على المزج بين الضحك والنقد الاجتماعي العميق، إذ استخدم القصة الريفية الصغيرة لتسليط الضوء على البلاغة السياسية والفساد والممارسات الانتخابية في الجزائر.

🎭 3. مرحلة النضج الفني: بين النقد الاجتماعي والموقف الوطني

مع مطلع التسعينيات، بلغ عثمان عريوات ذروة نضجه الفني، حين تحوّل من “ممثل محبوب” إلى رمز وطني للوعي الشعبي. لم يكن مجرد ممثل كوميدي، بل “صوت المواطن”, يواجه العبث السياسي والاجتماعي بالسخرية الذكية والابتسامة الساخرة.

كان فيلم كرنفال في دشرة (1994)، من إخراج محمد أوقاسي، ذروة هذه المرحلة. قدّم فيه عريوات شخصية “الوالي صالح”، رجل بسيط يجد نفسه فجأة في قلب اللعبة السياسية. من خلال هذا الدور، فضح عريوات بعفويةٍ وذكاءٍ البيروقراطية، النفاق السياسي، والفساد الإداري، بأسلوب كوميدي لا يزال حتى اليوم مرجعًا في الثقافة الجزائرية.

الفيلم لم يكن نجاحًا تجاريًا فحسب، بل تحوّل إلى ظاهرة اجتماعية. فعبارات مثل:

“راني والِّي!”
“الكرنفال في الدشرة يبدأ وينتهي في الرشوة!”

صارت جزءًا من الخطاب الشعبي اليومي، مما جعل عريوات يُعتبر أحد القلائل الذين استطاعوا تحويل الفن إلى مرآة ساخرة للسلطة.


🕯️ 4. الغياب الغامض: بين الصمت والعتاب

بعد سنوات من التألق، فجأة، اختفى عثمان عريوات عن الساحة الفنية. لم يُعلن اعتزاله رسميًا، لكنه انسحب بهدوء من الأضواء، تاركًا وراءه ملايين التساؤلات.

تشير بعض تقارير إلى أن انسحابه كان بسبب خلافات مع جهات إنتاجية أو تضييقٍ إداريٍ غير مُعلن. بينما يرى آخرون أن الرجل اختار الابتعاد عن الوسط الفني الذي تغيّر بعد التسعينيات، حين فقد الفن معناه الرسالي، وأصبح السوق يسيطر على الإبداع.

في مقابلة نادرة أجراها قبل سنوات قليلة، قال عريوات:

“أنا ما اعتزلتش الفن، الفن هو اللي اعتزلني.”

كلمات تختصر مرارة فنانٍ ظلّ يرى في الكوميديا وسيلة للنقد والتنوير، لا أداة للتسطيح أو التهريج. وبينما لجأ كثيرون إلى الإنتاج التجاري، ظلّ هو وفيًا لموقفه الأخلاقي، رافضًا الظهور في أعمال لا تمثّل قناعته أو لا تحترم ذكاء الجمهور.


🧩 5. التحليل الفني: فلسفة البساطة والرمز

يُجمع النقاد على أن عثمان عريوات يمثل مدرسة قائمة بذاتها في الأداء التمثيلي الجزائري. فهو يجمع بين الواقعية الشعبية والفلسفة الساخرة، بين “القول المبطّن” و“الضحك الصادق”.

أبرز سماته الفنية:

  • اللغة الحيّة: يستعمل الدارجة الجزائرية بذكاءٍ لغويّ نادر، ما جعل حواره يصل إلى كل فئات المجتمع.
  • الإيماءة الواعية: في كل حركة ونظرة، هناك معنى؛ فهو يعبّر بجسده كما بالكلمة.
  • الرمزية الشعبية: شخصياته ليست مجرد أفراد، بل رموز اجتماعية تمثل المواطن البسيط، المقهور، الماكر، أو الحالم.
  • الرفض للابتذال: حتى في المواقف الساخرة، لا يسمح للسخرية أن تنزل إلى مستوى التهكم الرخيص.

💭 6. العزلة كاختيار وجودي

اختيار عثمان عريوات للعزلة لم يكن هروبًا من الفن، بل موقفًا وجوديًا. فبعد مسيرة امتدت لأكثر من ثلاثة عقود، بدا له أن الساحة لم تعد تحتمل الصدق، وأن الجمهور تغيّر تحت وطأة الإعلام الجديد والموجة التجارية.

يُشبه هذا الموقف ما فعله بعض المفكرين والفنانين الكبار الذين فضّلوا الصمت حين أدركوا أن الكلام فقد تأثيره. ومن هنا، أصبحت عزلة عريوات أسطورة بحد ذات نفسه — تمامًا كما كانت حضوره يومًا ما أسطورة من نوع آخر.

وقد ظلّ اسمه يُتداول يوميًا، رغم غيابه التام عن الإعلام. إنه **الغياب الذي يؤكد الحضور**، والسكوت الذي يصنع الصدى.


🌍 7. أثره الثقافي والإجتماعي

لا يمكن فهم الثقافة الجزائرية المعاصرة دون المرور على ظاهرة عثمان عريوات. فهو أكثر من ممثل؛ إنه “مرآة وطنية” اختزلت ما لا يُقال، وفضحت ما يُخفى، دون شعارات ولا خطابات.

أثّر عريوات في جيل كامل من الممثلين الشباب الذين رأوا فيه نموذجًا للفنان النزيه، صاحب الموقف الأخلاقي قبل الشهرة. كما ساهمت أعماله في تكوين وعي سياسي مبكر لدى الجمهور، إذ جعل المواطن يرى نفسه — لأول مرة — بوضوحٍ ساخرٍ في مرآة السينما.

حتى الأكاديميون الجزائريون تناولوه في بحوثٍ ودراسات بوصفه ظاهرة ثقافية، لا مجرد ممثل شعبي. إذ يمكن القول إن **“مدرسة عريوات”** في الكوميديا تقوم على:

  • الفكر قبل التمثيل،
  • الرسالة قبل الضحك،
  • والصدق قبل التصفيق.

🔖 8. الخلود في الذاكرة الجماعية

اليوم، بعد عقود من الغياب، لا يزال عثمان عريوات حيًا في وجدان الجزائريين، تُستعاد صوره ومقاطعه يوميًا على المنصات، ويُستشهد بجُمله في النقاشات السياسية والاجتماعية كأنها أمثال شعبية.

ربما لم يكن يسعى إلى المجد، لكن الفن اختاره رمزًا. وربما لم يكتب مذكراته، لكن جمهوره كتبها عنه في كل ذاكرة جزائرية تعرف أن الصدق لا يُشترى. إنه الفنان الذي أثبت أن من يضحك الناس بصدق، يخلّد نفسه في قلوبهم.


🖋️ إعداد وتحليل: مجلة النبراس الأدبية الثقافية

📚 المراجع: ويكيبيديا، مقابلات أرشيفية، مصادر أكاديمية وثقافية.