القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

رماد حلم قصة قصيرة بقلم الأديبة أيمان الدرع . سوريا .منشورات العرين

منشورات العرين للإبداع والثقافة رماد حلمٍ ... / إيمان الدرع / **************************
كدتُ أمزّق قميص ولدي، وأنا أجذبه بفظاظةٍ، أؤرجحه بقوّةٍ، وقد صاربين يدي ، كعصفورٍ مضطربٍ، مستسلمٍ بحيرةٍ لنوبة غضبي. ـــ قل لي: أين هو ؟؟؟ لمَ تركته يمشي؟؟ ( وأنا أفرك الأوراق الماليّة بقهرٍ بين أصابعي) ـــ لا أدري أبي، أصرّ على الخروج دون انتظارك، عييت به ولم يستجب لي. لحقت به، رأيت طيفاً رقيقاً، محنيّ الجذع، يندسّ على عجلٍ بين ركاب الحافلة، ويغوص بين الزحام. ويحي من نفسي، من هذا الزمان، من عمرٍ يتعملق فيه اللبلاب، ويغيب الصفصاف، متقوقعاً في جذره في مقهى ( الهافانا) المطلّ بواجهته الزجاجيّة، العريضة، على شارع الفردوس، التقيته، يتعثّر بحقيبته، عرفته من مشيته التي يشوبها عرج بسيط، يتغلّب عليه، بثبات خطوته، وبرأسه المرفوع ،وبقسمات وجهه المريحة، التي ارتدتْ جميع خطوط الزمن، طولها ، وعرضها. معطفه الشتويّ السميك، يحمل رطوبة المطر، الممزوجة برائحة تبغ قديمة،تعشّقتْ في خيوطه. أطبق مظلّته، ينفض عنها ماعلق بها من خيوط السماء المبتلّة،وانتحى جانباً، على طاولةٍ ، أفسحتْ لي الفرصة أن أتأمّله أكثر. لمحتُ شعره الأشيب ، وهو يرفع القبّعة الجلديّة عن رأسه، ويمسح نظّارته من غبش الجو المعكّر، أعرف عينيه، يا إلهي كم هما منتفختان،مكدودتان،تسحّان قهراً، وشروداً. اقتربتُ منه أصافحه، بقبضةٍ تتبتّل، في حضرة الهيبة، والوقار. ـــــ أستاذ أحمد هل تأذن لي بالجلوس ..( وأنا أسحب الكرسي نحوي) أنا تلميذك حسام من مدرسة/ جودت الهاشميّ / منذ عشرة أعوامٍ،أتذكرني ؟؟؟؟ أغمض عينيه لبرهةٍ ، اعتصر ذاكرته، لست أدري إن تذكّرني حقّاً، أم لا، فالكبير لا يشعرك بأنك غبت عن باله، ولو خانته الذاكرة، ثم انفرجتْ أساريره،وكرّر مصافحته معانقاً: ـــ العتب على النظر يا بني. ومع تصاعد رائحة القهوة الشهيّة الساخنة، وسحب الدخان، والنراجيل، وهمهمات الأصوات، التي تنفلت عنها بين لحظة وأخرى ضحكات، تطلق عنانها، ثمّ تلتفّ بخجلٍ من جديدٍ، كتهمةٍ مارقةٍ، رحتُ أبادله الحديث، ألملم عن كاهله شعث الزمن، أروي له حكايا قديمة عنه تشهد على رسوخه بأرواحنا، كقامة لاتنسى، وهو ينصت لي بفرحٍ يعطيه دفقةً، من دفءهاربٍ ، عن صرحٍ بات مهدّداً بالهدم. حملتُ عنه الحقيبة غصباً، ونحن نهمّ بالخروج : ـــ ثقيلة هي يا أستاذي ،مابها ؟؟ تنهّد بعمقٍ ــــ إيييه .. دنيا ، لا عليك ياولدي، ماذا أقول ؟؟ ـــ وأشار بيده إلى المكان المكتظّ بالمكتبات ــ درتُ بكتبي اللغويّة التي قمتُ بتأليفها للناشئة ــ على الصّفين ـ البعض اعتذر بلطفٍ مشفقاً على كهولتي، والبعض الآخر، وضع لي شروطاً تعجيزيّةً، تقتنص تعبي،وتستبيح سنين العمر، وعصارة الفكر،بثمنٍ بخسٍ، وآخرون لم يلتفتوا إليّ ولو بطرفة عينٍ، تشاغلوا عني، يغوصون بين أكداس الكتب، وفواتيرها، يطلبون على عجلٍ بعض روايات مطلوبة بقوّة، بدلاً من التي نفد منها ، بسرعة الريح، ثم تبسّم بمرارةٍ، برقتْ في عينيه كغيمة مكتومة الغيث: إليك هذه العيّنة من الروايات: (قبلات محروقة، امرأة في قفص الفهود،جسدٌ بين جدران تحترق) حُقّ لها أن تتصدّرواجهات المكتبات، أليس كذلك؟ أطرقتُ ساهماً، وقد انتقل نصل وجعه إلى قلبي، وأنا أقلّه بسيارتي إلى داره، أشيّعه بنظري وقد اعتراني الحزن، والأسى،ممتزجاً بطعم جحودٍ كبيرٍ ، وإن كنت لستُ أنا المتسبّب به. أيّام قلائل، كنت عنده، أزفّ له البشرى، أدّعي أنّ ثمّة مصادرـ اختلقتها بإتقانٍ ـ يلزمها تلك المراجع الهامّة، من مؤلّفاته .. طار من الفرح، كطفلٍ صغيرٍ، وهو يروح، ويجيء، يصفّف الكتب في علبة ٍكرتونيّة، أودعها برفقٍ فيض أنامله المكدودة، وعقله، وحروفه التي كادتْ تموت في السكتة الورقيّة ، المنسيّة. لم أشعر بالسعادة، كما حملتها معي الآن، وأنا أودّعه، أشدّ على يده المعروقة، النحيلة . جاء ليشكرني في زيارةٍ مفاجئةٍ، ولغبائي، نسيت كتبه كما هي في العلبة التي غلّفها بنفسه، وقد طمأنته بأنها وزّعتْ، وصار قطوفها عند من تلزمه، وكما يحبّ. أبى شموخه الانكسار على عتبة الحياة القاسية، التي أطفأ ترابها الأسود شموع عينيه، وبصماته. أعاد لي المبلغ، رغم حاجته إليه، رغم بساطة بيته، ورقّة حاله، رغم الأمراض التي تأكل جسده الهزيل. لا أولاد عنده يدقّون باب بيته، ولا أصحاب يذكرونه، وقد رحل منهم من رحل، وشتاء العمر لا يرحم. كنت أتلعثم أمامه، كطفلٍ مذنبٍ، وأنا أبرّر له الموقف، ترفّق بي، يدفع بقلبه الكبيرإليّ مع حروفه التي جاهد في تماسكها: ــــ الذنب ليس ذنبك يا ولدي، هي الحياة، لا تحمّل نفسك فوق طاقتها،أقدّر ما فعلته من أجلي، ولكن ...لا أحتمل .. تلك المقايضة، أتعبتني، وأثقلتْ على روحي. كتبي هي أولادي من بعدي، ستنبت سنابلَ، ومطراً، وزهراً، لن تموت، فحياتنا يا ولدي بدأت بكلمة، وستنتهي بكلمة. أوصيك ..إن متّ فانثر باقة وردٍ على مثواي، تلك التي حلمت بها أن تمنح لي في حياتي، على المنبر ، أمامكم، أنتم أبنائي، انتظرتها طويلاً، ما طلبتُ غيرها، أرأيت يا ولدي خديعة أحلامنا !!؟؟ كم هي باهظة ، وعصيّة !!؟؟ غادرته ترشح من خطواتي أنّات عينيه ، وهطلهما، التفتّ ورائي، رأيت ضباباً يلتهم جدران بيته، وأنواراً تنطفئ تباعاً من نوافذه،حتى استحال إلى عتمة حلمٍ، بلون باقة ورد، نُثرتْ على رخامه البارد.