من منشورات العرين للأدب والإبداع
تجليات النقد الشعري
الأديب والناقد
د. عباس الجبوري
قد يعجبك ايضا
الجمع الكبير من الأدباء يعرفون انّ الشعر اعتراض ، و انّه فكر وليس مجرد فنّ وكلمات ، لذلك قيل عن النقد انه اعتراض في اعتراض . وهذا يشير الى ان عملية النقد ليست فقط قراءة فذّة و لا تفسيراً لجماليات الابداع و لا عيناً عارفة و مميزة . إنّ النقد كما الشعر رؤية و ابداع ، لذلك ليس مهما أسبرنا في غور العمل الابداعي بقدر ان تحقّق القراءة النقدية رؤية متميزة وواضحة تجاه الأدب... هذا الجانب الاشراقي في الناقد يتجلّى بوضوح عند "النقاد الشعراء" لان كتابة الشعر تعني في جوهرها بوح ورؤية ،وكشف شفيف لعوالم الروح ليكون مصدرهما واحد .
فكرة الكتابة الشعرية
ونحن نتناول موضوع تجلّي التجربة النقدية للشاعر الناقد في شعره ،فانّا نتوخى فيه اعلى درجات الدقّة ، اذ ليس الأمر فقط قراءة جمالية اجتهادية ، و انما تحقيق واقعي في عملية التفكير و ميكانزما الكتابة . و لهذا فإنّا سنعمد الى المعارف المطروحة بموضوعية كبيرة ، فحينما تتوفر لدينا ادلة كافية للاقرار بمعرفة معينة حينها ستكون في سياق الكتابة العادية لان الاصل فيها ذلك،اما اذا بقيت المسألة في حيز الفرضية و لم يكن لها ظهور جيد فانّا سنشير الى ذلك و الى الحاجة الى ادلّة داعمة لها.
إن الناقد ليس متذوّقا جمالياً بأدوات معرفية معروفة ، او خبيرا بنظرية الأدب فحسب والنقد وتطبيقاتهما فقط،،! بل هو مفكر صاحب رؤية تجاه الأدب عموما و الشعر خصوصا ، وهذا جليّ واضح في كتابات النقاد و اختياراتهم..بل ان النقد التطبيقي على النصوص هو في واقعه تطبيق لتلك الرؤية
وتبيين ملامحها....
من المعلوم تأثّر النوع الشعري بالفكر النقدي للشاعر الناقد ، لأن الشاعر ، يتفهم موضع النقد والناقد ... ومن اللاموضوعية وصف ناقد تذوّقَ الجمال
وعرفه ان يتعصّب لشكل من اشكال الكتابة وهو على دراية بجمالية الاشكال الاخرى ، اذن فتبنّي شكل شعري معين ينطلق من أسس فكرية نقدية لأسباب جمالية بحتة ..
وهنا اريد ان أتطرق إلى شعراء قصيدة النثر ضمن هذه المرحلة ، والمقربين لي
سرور ياور رمضان ، وفاطمة محمود سعد الله ،وسناء الانور ووسام راسم ،وسليمة مليزي، وسهام غباري وشفيق الإدريسي والشاعرة نجاة بشارة اللذين لامس النقد شغاف قصائدهم وقد تكون نجاة بشارة تتصدى للقضية كمنظرة لقصيدة النثر مثلما تميل إلى الشعر
الموزون كما الشاعر ضمد كاظم وسمي يلتزمون كتابة العمودي رغم نظرتهم الثاقبة في الشعر النثري ، بل والنص المفتوح وتعدد القراءات مع أن البعض يصرِّح انه لا يكتب الا العمودي حاليا ، وقد يكتب الشاعر قصيدة نثر و اصدر مجموعة شعرية كالشاعرة دنيا زاد بوراس عنوانها "القديسة " و بينما يكون من الطبيعي ان يتجه الشاعر من قصيدة الوزن الى النثر كما حصل معي ، فان نجاة بشارة إقتصر ت
على الموزون بعد كتابة قصيدة النثر وهذا لا يمكن رده الا الى الفكر النقدي و الرؤية الخاصة للشعر
وجمالياته ...
ووجدنا أن السياب ونازك الملائكة يتلمّسان الجمال في جميع اشكال الشعر ، فلا تمييز مدرسي لديهما بينها ، نجد كلّا منهما يميل الى كتابة مختلفة فكل منهما مدرسة شعرية ، إلا أن الشاعر وسام راسم قد تأثر بشعر التفعلية لألتحامه بفكر والده الشاعر الراحل راسم الطائي، و يكتب الشعر النثري. بينما يتفرد نهاد عباس بطيف واسع من التجربة العملية ، فلا زال يكتب في جميع اشكال الشعر من عمودي و تفعلية و قصيدة نثر ، مع تجربة متميزة في التوظيف الفني ..و بينما يمكن الفهم من ذلك بانه تبدّل بالرؤية للغة الشعر او سعة التذوق الجمالي ، الا انه يمكن فهمه ايضا بانه طغيان لصوت الشاعر على الناقد ..
و في كل الأحوال وتبرز التجليات بأن الشاعر الناقد ليس شاعراً ناقداً وانما هو شاعر و ناقد ، تستقل الشخصية في الاثنين ،و هذه الدراسة كانت لبيان عملية التأثر ، و ليس بيان خضوع احدهما للأخر ، لذلك حينما نتحدّث مثلا عن الشاعر يختلف عن حديثنا عن الناقد وهكذا الحال في غيره من الشعراء
والنقاد ....بالرغم من
تراجع الاهتمام النقدي بالشعر تنظيرا وتطبيقا. أسباب تراجع هذا الاهتمام يعود جزء منه الى هيمنة الرواية على المشهد الثقافي، سواء من حيث الإقبال على خوض مغامرة كتاباتها حتى من قبل الشعراء أنفسهم،ولكثرة الجوائز السخية التي تمنح لكتَّابها سنويا
أما الجانب الآخر يتحمل الشعراء مسؤوليته فيتمثل في هذه الفوضى التي تعيشها الكتابة الشعرية، والاستسهال الذي يجعل كل عاطل عن الكتابة يتجه لكتابة الشعر، لكن لماذا نظلم الشعراء وحدهم على الرغم من وجاهة النقد، وننسى دور النقد والنقاد حتى في المرحلة التي مازال الشعر يحافظ فيها على مكانته في المشهد الثقافي ...!!
وفي الحدث المداهم لصعود المشهد الأدبي على حساب الشعر، يجد البعض من النقاد ضالتهم في نقد الرواية، لإستسهال المدارس النقدية المترجمة ومرونة توظيف هذه الوفرة في نقد الرواية، في الوقت الذي يجب أن يلتفت الناقد الشعري مواصلة القصيدة الحديثة في نسختها الحداثية مغامرتها الجمالية والفكرية، التي تستدعي إبداعا نقديا مواكبا، يتجاوز تحليل أو تفكيك بنيتها إلى إدراك معاني هذه التحولات وما تؤسس له من قيم جديدة تخصّ جمالية الكتابة والرؤية إلى الذات والشعراء معا....