القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

متخلف!! للأديب : عبد القادر صيد.

متخلف 

و أنا في طريقي بعد صلاة الصبح إلى المخبزة الوحيدة في البلدة، أتخاصم يوميا مع ذلك الفتى من أجل زجاجات الخمر، يريد أن يبيعها ، كما أنه لا يكتفي بأخذها ، و إنما يرتشف ما تبقى فيها ، و هو عادة كمية معتبرة ، ما يصبغ القداسة على مهمتي، لأني أريد أن أحطّمها ، لا أكتفي بمجرد تكسيرها ، بل أمارس عليها مهارة الرمي عن بعد و في ذهني رجم أصحابها الذين سهروا سكارى تحت ذلك الجبل ، و من الموافقات أن تألفت بيننا رابطة مهنية، بعدما طوّحت به الدنيا ، و هو يكبرني بسنوات ، حيث أصبح موظفا محترما ،الغريب أنني لم أتذكر فعلته هذه إلا أثناء الحادثة التي سأقصها عليكم ، فقد كان مسؤولا عليّ في إحدى الإدارات في ضاحية استأنس به أهلها حتى لزم السكن الوظيفي فيها لأعوام طويلة، أتذكر أنه أوصاني مرة أن أشتري له قميصا أبيض ، فاقترحت عليه :
ـ يليق بك الأزرق سيدي ، فالأبيض يظهر الأوساخ..
ــ هذا ما أريده بالضبط ؛ أن تظهر الأوساخ لأخلعه ، و أبدله بغيره ، لا أريد أن أنافق نفسي..
أعجبتني وجهة نظره ، و أشفقت عليه من عدد القمصان التي يجب أن يغيّرها في منطقة حارة مثل بلادنا ،حيث العرق فيها ضريبة مجانية و إجبارية . 
و من المواقف التي ما زلت إلى اليوم أحتفظ بها ، عندما قلت بعدما قدم معونة لأحد الفقراء :
ـ إن الله سيجازيك عن صنيعك ..
ـ كيف يجازيني الله عن أمر لم أقدمه له ؟
ـ لم أفهم ماذا تقصد ..
ــ أنا أفعل الخير من أجل الإنسانية ، لا من أجل أنهار العسل و الخمر الموعودة ، إنني أستطيع شراءها في هذه الحياة ، و الارتواء منها حتى القرف .
طبعا لم أشأ أن أجادله ، لا لأنه مسؤولي ، و لكن طبيعتي دائما أن أتحيّن أوقات الإقناع ،و أبتعد قدر الإمكان عن لحظات التحفز، إلا عند الضرورة ، تذكروا ـ أيها القراء ـ أنه لا يعرفني مثل ما تعرفونني ،لذلك أدخلني منزله ، و أطلعني على غرفة الوصفات الطبية المكتوبة كلها بالفرنسية ، شرح لي فوائد مجموعة من الأدوية و مضارها ، و هو يحتفظ بكل وصفة و لو تكررت ، حتى جمع منها مجلدات ، ثم دخلنا مكتبته التي كلها في الأدب الفرنسي ، و راح يقرأ على مسامعي عناوين الكتب و أسماء مؤلفيها ، بلهجة ليس فيها غرور ،و إنما كلها ثقة و رزانة ،ثم خرج بنتيجة :
ـ لو اهتم هؤلاء بالعبادة لما صنعوا هذه الأدوية ،و لما ألفوا هذه الكتب ، أنا مدين لهم كلهم في جسدي و في عقلي ..
ـ لكن لم أجد في مكتبتك كلها كاتبا ملحدا ، و هذا شيء إيجابي فيها ..
غيّر الموضوع مباشرة ، كأنه يريد أن يقول لي أن هذه المناورة أكبر منك ، ثم وجدت أنه قد أعدّ لي الغداء ، و قبل تناول أول لقمة ،قلت له :
ـ هل مسموح أن أبدأ بسم الله ، أم أني مجبر على عبارة باسم الإنسانية؟ 
ـ قل ما شئت بعدما تصنع الملعقة التي تأكل بها.. إنكم حقا متخلفون ..
قالها بنوع من المزاح و الطيبة يمحو عنها صبغتها كشتيمة ، أكلت أكل متخلّف ، ثم خضنا في شؤون عامة ..
ثم بدأ يظهر عليه شيء من التردد و القلق ، و الإقدام و الإحجام ، إلى أن استجمع أمره ،وبادرني :
ـ بقيت زاوية واحدة مقدسة في المنزل أريد أن أطلعك عليها ، و لك كامل الحرية إزاءها ، فإني أراك شخصا عاقلا مختلفا عنهم جميعا،تمتاز أكثر ما تمتاز بهدوئك و عقلانيتك ..
وافقته على ذلك ، و عندما دخلتها وجدت غرفة مخصصة لأنواع الخمور الفاخرة ؛موسوعة من الخيالات، الجو مذهل و منعش .. لم أتمالك نفسي ،اعذروني يا قرائي الكرام ، فالإنسان ضعيف أمام إغراء كهذا ، نعم لم أتمالك نفسي ،افتضحت أخيرا ،و لتقولي فيّ ما شئتم ..رحت أمارس هوايتي القديمة في قنص الزجاجات بكل ما وقع في يدي ، بتلك الملاعق التي لم أصنعها بصفتي متخلفا ، و بالصحون ، و بكل شيء..و هو يصرخ :
ـ توقف أيها المجنون المتخلف ، أنت أسوء منهم جميعا ، أسوء بكثير.. 
مازلت أتفنن في فنّي الفريد غير ملتفت إلى توسلاته و إلحاحه ، إلى أن ظهرت في وجهي ملامح ذلك الطفل الصغير القنّاص ، عندها فقط ، تذكر الموقف ، و عرفني ،فعرفته ، صاح :
ـ أنت هو ذلك الطفل المعتوه ، تذكرتك الآن ..ما زلت تحطم أحلامي و آمالي إلى يومنا هذا ..
حمل السكين ، فأسلمت رجلي إلى الريح ، مازال إلى اليوم يبحث عنّي ، لو يصل إليّ فإني لا أشك في أن أحدكم ـ أيها القراء ـ هو من دلّه عليّ.. ..


الشاعر: عبد القادر صيد

عبد القادر صيد مجلة النبراس الشاعر قلم