القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

الباحث والناقد محمد شنشيل وقراءة لكتاب (عبد الجبار الفياض حكيم من اوروك) بقلم/ حسين الساعدي

قراءتي لكتاب (عبد الجبار الفياض حكيم من اوروك) للناقد والباحث محمد شنيشل الربيعي (أبو الباقر الربيعي) المنشورة في جريدة الزمان في عدد يوم الاثنين ٢٠١٧/٥/٢٢ . Abd Uljabar Fyad
في جريدة الزمان وفي عددها ليوم الاثنين ٢٠١٧/٥/٢٢ نشرت قراءتي لكتاب (عبدالجبار الفياض حكيم من اوروك) للناقد والباحث محمد شنيشل (أبو الباقر الربيعي) 
محمد شنيشل فرع الربيعي
 ومنهـجه النقـدي فـي فلسفـة النـص 
ربما تحتوي الصورة على: ‏شخص واحد‏
بقلم/حسـين السـاعـدي
الأستاذ محمد شنيشل الربيعي ناقد وباحث ، جزل العطاء يمتلك الأدوات والمفاهيم الإجرائية التي تمكنه أن يحدث أنعطافة مهمة في قراءة النص الشعري عبر تشابك عناصر الإستقراء ، وفرز الواقع النقدي ، له دراسات وأبحاث وقراءات قيمة ، قدم منجزه (عبد الجبار الفياض حكيم من أوروك) في لغة عميقة ومعاني دقيقة وأنساق تبلورت بجلاء معرفي من أجل إيصال المتلقي الى رؤية واضحة وحكم معين وهذا لم يتم بدون وجود معرفة منطقية ودراية نقدية بما يكتب .
في قراءتي هذه لا أريد أن أمارس عملية نقد النقد في إستقراء المؤلف لنصوص الشاعر العراقي "عبد الجبار الفياض" ، بقدر ما أريد أن أبين المنهجية الجديدة التي قدمها في دراسته (عبد الجبار الفياض حكيم من أوروك) والتي ترتكز على ما أغفله الأخرين من أبعاد فلسفية في شعر "الفياض" من خلال قراءاتهم لأعماله الشعرية ، وأستقراء المعنى الفلسفي في النص الشعري عند الشاعر وبيان حقيقة الحكمة السومرية . الأمر الذي ينسحب هذا القول على بقية النصوص في حال عرضها على تلك المنهجية الجديدة .
أن هذا التقديم الذي سيق بإطار فلسفي يختلف تماما عما أعتاده النقاد في تنشئتهم وتأصيلهم المعرفي ، والعلمي للدخول الى النص . لقد أرسى الكاتب أسساً لمنطلقات فكرية وأدبية وفلسفية في تناوله النص الشعري السومري من أجل تحريره من تهمة البدائية والخرافة والأقاويل اللاعلمية .
أثارت هذه الدراسة من خلال منهجيتها التحليلية جملة من التساؤلات التي تشكل الإجابة عنها وقوفاً على حقائق منهجية في جوانبها المختلفة . وينبغي النظر إليها من زاويتين متلازمتين: الأولى ، من جهة واضعها ، والثانية ، من حيث موضوعُها الذي دارت معه . وعليه سوف نسلك منهج التوصيف والشرح في قراءتنا لهذا الكتاب .
أن كل عمل أدبى ، يحمل فى ثناياه فكرة أو عدة أفكار فلسفية ذات طابع إنسانى عام . وأعمال الشاعر العراقي "عبد الجبار الفياض" ، تصلح أنموذجًا جيدًا يمكن أن يطبق عليها الكاتب منهج القراءة الفلسفية ، وتوضيح معالم المنهج ، إلى من يقتنع به من النقاد المتخصصين .
أرى أن الذي شحذ همة الكاتب في التنظير الى المنهج الفلسفي في قراءة النص هو "نيتشه وهيدجر وباسكال" . وبما أن الشعر يرتبط أرتباطاً وثيق بالخيال فأن الخيال هو طفولة العقل على ما يذهب اليه "هيجل" . (ص106/105) . فهو يشير الى أن (كينونة النص تكمن في التأمل الفلسفي الذي يشكل المدخل الى عالمية النص) (ص106) كما أشرنا ، والذي يعزز هذا الأعتقاد أن الأستشهاد بـ"نيتشه وهيدجر"وغيرهم من فلاسفة الوجودية هذا لا يعني أن الكاتب قد خطَّ له مرجعية فلسفية غربية في قراءة النص ، إلا أن الكاتب وضع تساؤلات نعتقد أنها جاءت وفق مباني الفلسفية الوجودية .
يعتبر الكاتب أن النص المعاصر محاط بتساؤلات فلسفية بما يتضمنه من رؤى قد يغفل عنها الشاعر أو الكاتب من حيث لا يدري . فتثير الدهشة لديه عما كتبه ، فهو يرى في(ص30) أن النص المعاصر ينبغي أن يكون(في حال تلازم مع أستنطاق الذات من الداخل المُسْتَقرَأ دائماً وهذه فلسفة الشعر في نتيجتها الوجودية) .
المناهج النقدية المعاصرة لم تظهر الجانب الفلسفي في داخل منظومة النص ، بل أكتفت في المعالجات اللغوية والتراكيب اللفظية أضافة الى أستخدام الأدوات النقدية التي يمتلكها الناقد والتي أضحت تقادمية في تعاطيها مع النص الشعري عامة والنص السومري خاصة . على الرغم من كثرة المناهج النقدية لكنها لم تأتِ بجديد عدا المباحث اللغوية فيه . وهذا يشكل عجز هذه المناهج عن الأتيان برؤية جديدة وأكتفت مرة بموت المؤلف والشخصية أو موت الناقد . وأوكل كل ذلك الى المتلقي وهو قاصر أن يلم بكل مكنونات النص النفسية والفلسفية . راجع (ص28) يقول "إيريك أنديرسون" في كتابه "منهج النقد الأدبي" أن (الفلسفة لا تعطينا رأياً خاصاً في عمل بعينه لكنها تبين طبيعة الأدب،ومبادئه،وأساليبه، والآراء ،والطبقات،والأشكال،والوظائف،والتعبير الجمالي) .
جاء الكتاب من أجل الأبتعاد عن المناهج التقادمية . فهي إذن دعوة الى التخلص من الطرائق التقادمية في تقديم الأفكار وإيجاد أنماط فكرية غير مقترنة باللغة ، وإنما البحث عن عمق النفس البشرية وأستجلاء البعد الفلسفي من تلك الأعماق البعيدة . فالأشارة التي يرسلها الشاعر ، حرياً بالمتلقي اللبيب أن يلتقطها . والكاتب يفصح عما أفتقرت اليه الدلالة من تناولها للرؤية الفلسفية في النص المعاصر .
في (ص28) يلخص الكاتب منهجه النقدي الحديث بقوله:(أن الشعر ليس طبيعة كلامية أو لسانية مصطنعة أو حراك تحدده قوالب ثابتة من الأوزان .. أو أنفعالات نفسية فقط .. فالنص المعاصر فيه إتاحة أكبر للفكر على حساب العاطفة كذلك اللغة أكثر إستقداراً ..)، وفي (ص201) يعتقد (أن النص المعاصر .. يرتدي ثوبه الحقيقي ألا وهو ثوب الفلسفة) في أشار الى ما أكده هيدجر ونيتشه . وهذه الرؤية تؤدي حسب رأي الكاتب الى (موت البعد المحاكاتي للنص في المستقبل القريب وأنتشال النصوص من تقادميتها وتوجيهها وفق المبنى العقلي وبأستخدام الهرمنيوطيقا لتأويل لغة النص الأدبي) .
كذلك ينطلق في منهجه من رؤية إن الإنسان فيلسوفٌ في تكوينه وطبعه ، يتداخل في هذه الرؤية ماهو ذاتي مع ماهو موضوعي . ويدعو إلى الحرية التامة في التفكير بدون قيود ويؤكد على تفرد الإنسان ، وأنه صاحب تفكير وحرية وإرادة وأختيار ولا يحتاج إلى موجه .
نحن نعرف جيداً أن النقد حوار فاعل بين النص والقارئ ، وليس للنص معنى بمعزل عن قارئ ، ولكن على أن لانغرق النص بمفاهيم قد تشل النص وتهتم بالناص بمعزل عن المتلقي . وهذه دعوة أوجهها الى النقاد من متلقي وليس ناقد .
رب سؤال يطرح ، لماذا أختار الكاتب "محمد الربيعي" الشاعر "عبد الجبار الفياض" كأنموذج في أماطة اللثام عن منهجه النقدي؟
إن أختيار أعمال الشاعر العراقي "عبد الجبار الفياض" على أساس أن كل عمل أدبي ، يحمل بين طياته أفكاراً فلسفيةً ذات طابع إنسانى عام ، يمكن الولوج اليها بسهولة ويسر ، من أجل بيان معالم المنهج ، أستطيع القول إن الكاتب تبنى في مبحث القراءة النقدية في قراءاته التحليلية كل أعمال الشاعر ، وقد أشار الى الكتابات البحثية المتعددة حول المقاربات النصية لشعر الفياض ونزعته "الأنطولوجية المتجددة" . الكاتب غايته أن يسهم في معرفة تشكيل المعنى الأدبي في الإتجاهات النقدية المعاصرة البنيوية وما بعدها . ويكشف عن عقلية جديدة في تفحص النص الأدبي والبحث عن المعنى ثم فهمه .
إن التحرر من دائرة المناهج النقدية الغربية وتبعيتها أصبح ضرورة ملحة يتحمل مسؤوليتها الناقد العربي من خلال الخروج بمدرسة منهجية نقدية عربية خالصة تثري وتطور النتاج الأدبي العربي في قراءة الأعمال الأدبية العربية ونقدها على أساس ما تختزنه من مضامين فلسفية . لأن( أي عمل أدبي ، أكتسب قيمة إنسانية ، وتم الأعتراف به ، إنما يقوم على فكرة فلسفية محورية) .
ورب سأل يسأل ، ماهو الجديد في هذا المنهج ؟ الإجابة هو أبراز مضمون العمل الأدبي مركزاً على الجانب الإنساني الذي يتصل بالحقائق والتجارب التي يمر بها الإنسان في كل زمان ومكان وكذلك على الجانب الفلسفي في العمل الأدبي .
في دراسته أراد الكاتب أن يتجاوز الأطر والمناهج المتعارف عليها في العملية النقدية وينطلق الى أفق أوسع وقراءة أشمل تبشر بمنهج نقدي ينبثق من (بغداد الحكمة )الى أفاق واسعة نحو رؤية منهجية جديدة بعيداً عن الأسس التقادمية التي قامت عليها والتي أسست وفق المباحث الغربية وأصبح الواقع العربي النقدي رهين هذه المدارس حتى غدت للناقد العربي مناهج مقدسة منبهر بها لايمكن المساس بها ولا الانفصام عنها . وإذا نظرنا اليها على هذا الأساس فهذا يعني هناك قصور فكري وعلمي عند الأديب العربي من خلال تحجيم فكره وعدم النظر الى موروثه الحضاري الممتد عبر آلاف السنين .
لقد أستنطق الكاتب العمق الفلسفي للصفة الوجودية لأول حضارة إنسانية عرفتها البشرية وأظهار البعد المعرفي لهذه الحضارة التي أعتبرها "حضارة كونية" من خلال التقدم العلمي والفكري مستنبط ذلك من الحوارات التي دارت بين النبي نوح(ع) مع الإنسان السومري وفق ما ذُكر في القرآن الكريم .
إن حضارة سومر تمتلك الكم الهائل من المعرفة ومن النتاج الثقافي والعلمي والادبي ، مرتكزة على منهج منطقي وهذا دليل على شيوع النزعة الجدلية المنطقية في ذهنية الإنسان السومري . وليس كما يظن البعض أساطير لايمكن أن يبنى عليها أي منهج منطقي .
علينا أن نساير الكاتب حتى نتلمس بدايات الحكمة السومرية وريادتها في تاريخ الفكر الإنساني والتي تركها الكاتب فراغات سائبة على المتلقي ملئها .
أستهدف الكاتب في منهجيته رفع درجة الوعي الفكري والثقافي من خلال منظور نقدي موضوعي وفي إطار مراجعة شاملة لاتشمل الماضي وقراءاته وتأويلاته فحسب ، بقدر ما تشمل الحاضر أيضا ً، لاسيما المناهج النقدية المعاصرة .
نلاحظ عند تصفحنا للكتاب (أن القراءة النقدية جاءت مكثفة ومختزلة لكنها تكشف بعمق عن عوالم "النص" والشاعر معا ً، وحالة التفاعل الحسي بينهما والتي جسدت مخرجاتها عبر أنساق شعرية مختلفة في بنيتها وتراكيبها اللفظية) . أعتمد التشكيل الشعري عند الشاعر الفياض في بناء وصياغة القصيدة على الأمكنة والحوادث وأن يزج صوراً شعرية كانت في منتهى الدقة ، يدعو المتلقي للوقوف على النص ليستكشف مدلولات النص ذات العمق الفلسفي وهذا بحد ذاته مدعاة للتأمل والدراسة في عمق الأساطير السومرية التي جعلها الكاتب محوراً أساسياً في البناء الشعري عند الفياض حين أكد في (ص77) إن الفياض يعتقد (أن الأسطورة أم الوجود ولبنة الأساس لكونيات العلوم الحاضرة) .
في (ص26) يشير الكاتب الى أن الشاعر "الفياض" يتبنى في مجمل نصوصه(فكر تراثي متراكم في نزعته المعرفية) ، فالشاعر يجد أن المثاقفة بين الحضارات خير من صراعها أو موتها لأنها ملك للإنسانية . وهذه نظرة صائبة ، لأن المثاقفة ترسم أفق كوني ذات مضمون فلسفي يصوغ الواقع ويفهمه . فهو يطلق لغة تحذيرية قبل حلول "طوفان جديد" على حد تعبير الكاتب ، نتيجة إنحسار قيمي من خلال تنبؤات العلماء والفلاسفة بنهاية أو موت الحضارة المادية . ومن أجل تجنب هذا الأنهيار الحضاري هو العودة "النكوص" الى "الفطرة الإنسانية الأولى" .
يؤكد الكاتب على أن الصراع الحضاري يجعل البعض أن يرجع الى الوراء في أقتفاء أثر الحكمة القديمة من أجل إعادة أستكشاف دروبها بعد أن عجزت الحضارة المعاصرة . (ص13) ، لأنه يرى أن الحضارة السومرية هي نتاج تفاعل القيم المادية والروحية ويمكن أن ترد هذه الحضارة على "عبثية الحضارة المادية" من خلال أطلاق "ظاهرة كونية يدعو فيها الى العودة لسومر" . السؤال ، ماهي الفطرة الإنسانية الأولى التي تعتبر المنقذ لهذا الوجود؟ . وهنا أشكل الكاتب على الشاعر أن يثبت كيفية أنقاذ هذه الحضارة . لكنه أعطى وجهتين في عملية إنقاذ الحضارة وهما الوجود "الفعلي/ المادي"والوجود"العلمي".
أرى أن الفعل المادي والعلمي للوجود واحد لأن الحضارة إذا أفتقرت الى الجانب الأخلاقي أو الروحي فهي مهددة بالسقوط وهذا ما ذهب اليه توينبي وأشبنجلر في أبحاثهم عن تدهور الحضارة الغربية المعاصرة .
شكلت الحكمة السومرية الشيء الكثير من أعمال الشاعر الفياض مستندة الى حكمة النبي نوح والحكيم إحيقار في عملية أسقاط المنظر السومري المتمثل بالطوفان على ما سوف تؤول اليه الحضارة الإنسانية في عصرنا هذا . يرى الكاتب أن نصوص الشاعر الفياض منزلقة عن النص السومري الكوني المتمثل بالحضارة السومرية والتي تعتبر"النص الأكبر" والنص المنزلق رؤية جديدة للكاتب بدل التناص ، لأن الأنزلاق فيما بعد يكون ذاته ، الذي شكلت الحكمة الأولى في تاريخ المعرفة الإنسانية وليس الفكر اليوناني التي أعتبر عند الغربيين "الأساس الفكري للفلسفة" مشيراً الى أن هذا الرأي ينطلق به الأخرين من عدم درايتهم بقدم حضارة سومر . وهذا الرأي لا ينم عن عدم دراية من الاخرين بل هي العنصرية الغربية التي أستحوذت على الفكر الغربي والتي لم ترى غيره من السمو والأبداع .
كذلك يرى الكاتب أن الفياض يستشعر في منهجه بالدعوة الى أحداث ثورة فكرية في ماهية اللغة والسياق ونوع الأدوات كبديل موضوعي عن "الذاتية الغائية" في المعالجة الشعرية . أن اللغة لم تعد كافية لسبر أغوار النص لأن الشاعر أخذ يتفاعل مع "التقلبات الكونية" و "الأنساق الفلسفية والثقافية" من أجل إيجاد قراءة جديدة للتاريخ والحضارة .
أن النص عند الكاتب يحمل فلسفة الشعر الوجودية في أستنطاق الذات من خلال المتلقي ، لأن سلوكيات النص المعاصر في نظره لا تفسر الأشياء تفسيراً منطقياً .
وفي أشارة جديرة في تسليط الضوء عليها يرى الكاتب أن الشاعر الفياض نسف المباني المادية والنظرة السطحية الفكرية الضيقة بعد أن أحس بضيق الوجود والدعوة الى ردم الهوة السحيقة بين الأنسان ومرجعيته الحضارية الأولى بتشكيل معرفي وثقافي مؤثر في الواقع المعاصر .
هنا من يطرح التساؤل الأتي: هل للفلسفة بعداً شعريا ً؟ والذي يجيب عن هذا التساؤل هو المعني بشؤون الفلسفة الذي يبحث في مكنونات الشعر للوصول الى ما يريد ، ولكن إذا طرح السؤال بالشكل المغاير لذلك فيكون كالأتي: هل للشعر بعداًفلسفياً ؟ هنا يكمن دور الناقد ومنهجيته للبحث في مكنونات النص الشعري ، ليظهر ما به من مباحث فلسفية وجدها الشاعر في لحظة من التأمل اللاشعوري ليجد نفسه أنه حكيم "فيلسوف" ومن هنا فإن إضاءة الحكمة في الشعر يجرنا الى سؤال أولي عن علاقة الشعر بالفلسفة وهل للشعر بعداً فلسفياً ؟ .
من هنا كانت الأنطلاقة الأولى للكاتب في مشروعه النقدي ، من خلال أستقراء النص الشعري ، وإيجاد رؤية فلسفية لمحتوى النص . وتحقيق تناغم بين الرؤية الميتافيزيقيا و الرؤية الشعرية ، فالشعر له عوالمه مثلما الفلسفة لها عوالمها . إذن ليس هناك عائق في أن ينفتح الشعر على الفلسفة ويتخذ من الفكر أداة للإبحار في عوالم الوجود ، فالجذر المشترك بين الفلسفة والشعر هو اللغة . وهذا ما يجعل من الفلسفة بكل تفرعاتها أن تكون ذات نزعة نقدية ، تحوي تقنية التأويل للنصوص الشعرية ، لأن الفلسفة في ماهيتها الميتافيزيقيا التي تشمل الإنسان والحقيقة ، لا تتعارض مع عوالم الشعر ، وإذا كان هناك تعارض بين الفلسفة والشعر قديماً فقد تم تجاوزه ،لأن كلاهما ينبعان من معين إنساني واحد وهو الفكر .
إن إشكالية العلاقة بين الفلسفة والشعر إشكالية جدلية قديمة ، تعود بداياتها الى زمن الأغريق عند الفيلسوف اليوناني "أفلاطون" الذي أتخذ موقفاً نقدياً من الشعر على أساس مفهوم المحاكاة . مما دفعه - أفلاطون - الى أقصاء الشعراء من جمهوريته الفاضلة . فالشاعر في نظره يحاكي عالم المحسوسات وهي نفسها محاكاة للعالم العلوي . وعلى هذا الأساس (وضع حداً فاصلاً بين الفلسفة والشعر فربط الفلسفة بالقدرة على الكشف عن الحقيقة وربط الشعر بمهمة الأبتعاد عن الحقيقة) . فالشعر عنده إيهام وكذب والقصائد التي يكتبها الشعراء تحتوي على معرفة وهمية .
إذن الفلسفة والشعر مرتبطان أرتباطاً وثيقاً وأن اللغة هي القاسم المشترك بينهما . وشكلا متلازمة لغوية وهذه المتلازمة أصبحت جزءً من الأسلوب المعياري لإنتاج لغة سليمة غير متسمة بالأخطاء .
في (ص62) يرى الكاتب أن الفلسفة عند "الفياض" تتجسد بين مرحلتين من الوجود(الاولى تعطي دائماً من أجل كبح الغرائز ... والأخرى تفكر من أجل التغيير وبناء العقل بصفته المفكرة والعاقلة في الكيان العاقل المنصهر في ملكوت الفكر ) . وفي بنائية النص الشعري عند "الفياض" يجعل الكاتب للنص (بعداً إنسانياً يتجول في طرق ذاكرة القارئ محاولاً الرجوع به للوراء من أجل أقتفاء أثر الحكمة القديمة الضائعة .. بعد أن عجزت الحضارة المعاصرة بالأرتقاء) . (ص67)
أن الكتاب يمثل جهدا ً متميزا ًإنبثقت فكرته لأماطة اللثام عن التنوع فى الأفكار الفلسفية والإنسانية التى وردت فى نصوص الشاعر عبد الجبار الفياص الشعرية ومحاولة المؤلف الغوص في أعماق تلك النصوص لسبر أغوارها من ناحية التناول الفكري وإضاءة النص وكشف معانيه .
إننا اليوم بحاجة إلى أمثال هذه الدراسات المتعمقة في الفكر والمنهج ، لأنها تمثل خلاصة وثمرة عقل غاص في أفكار الحضارة ، وأضحى ناقداً قد أتى عليها من قواعدها ومنطلقاتها،
فالكتاب إضاءة جديدة لتاريخ حضارة وادي الرافدين ببعدها الفلسفي والثقافي والعلمي والسسيولوجي والتاريخي والمعرفي ، وهو مساهمة جادة وعلمية لباحث متمرس، أستطاع أن يطوّع وسيلته الإبداعية عن الحقيقة والدفاع عنها ، وقناعتي أن هذا الكتاب يعتبر رفداً معرفياً متميّزاً للمكتبة العربية لكاتب متميّز .