القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

لما تصْطحبُ الذاكرةُ قلبَها في زيارةٍ إلى البَيَّض ..الدكتور بومدين جلالي - الجزائر

لما تصْطحبُ الذاكرةُ قلبَها في زيارةٍ إلى البَيَّض ..

بكل سرور؛ يطيب لي أن أهدي إليكَ أيها القارئ السعيد وإليكِ أيتها القارئة السعيدة هذا المقال من كتاباتي الإبداعية العديدة عن مسقط رأسي / البيّض - EL-BAYADH / الذي ولدتُ وترعْرعتُ ونشأتُ في أحضانه ثمّ غادرته وأنا يافعٌ، وما نسيْته قطّ، وظلّ مكمن حنيني ومصدر إلهامي عقودا متتالية إلى أن دخلت خريف العمر ... والبيّض هذا؛ هو مدينة متوسطة بالسهوب الغربية الجزائرية المتاخمة لسلسلة جبال الأطلس الصحراوي، وهو منطقة واسعة تجلت فيها القيم الجزائرية العربية الإسلامية ببطولات ما مثلها بطولات، وشهداء أجيال متعاقبة لوّنتْ التراب بدمائها الزكية وملأت السماء بأمجادها البهيّة، وفروسية مكتملة قادمة من جذور التاريخ، وكرم ما بعده كرم، وخصوصية رائعة بعلمها وشعرها وحكْيها وملبسها ومأكلها ومشربها وعاداتها وتقاليدها وكلِّ شيء فيها ...
أتمنى لكَ ولكِ قراءةً ممتعة مريحة مفيدة ... مع خالص الودّ وجميل التقدير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نص المقال ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لما تصْطحبُ الذاكرةُ قلبَها في زيارةٍ إلى البَيَّض ..........................................................
البيّض ... ياقطعة من كبدي، وقلبي، ووجداني، وبعض ذاكرتي التي غابتْ فيها الحدودُ وخفقتْ فيها البنودُ ومرّتْ بها أمواج الطيور الحاكية عن أنغام شخّصها النايُ والعودُ، وبِدَم الأبرار دوّنها السكّين والبارودُ ...
البيّض ... يا أسطورة الأساطير الآتية من غيب ما أبدعه الشجعان وأنشده الفتيان ومسرحته فنتازيا الفرسان وهم في مدّ وجزر كأمواج الشطآن ... يا أيها العالي بهضابك وأنجالها ... يا أيها العاتي بجبالك وحُماتها ... يا أيها الباسم الغاضب كضباب صباحك وسحاب سمائك حين الابتهاج، وكجنون رملك العاصف وغرور فيضك الجارف حين الاحتجاج ...
البيّض ... يا واحة القلوب التمْرية العسلية، ويا حديقة الوجوه الزهْرية الوردية ... يعشقك البدْر حين يكتملُ، ويلعب في رضاك السعْد والأملُ، ويرقص في نجواك إلهامُ الذين أقاموا أو رحلوا ... إنك النور، ومنك النور والسرور، وفيك الحكايات التي روتْها الدهور ومرّرتْها الجسور حتى غدتْ ما قاله الفاعل المشهور وشهد به الجار والمجرور والصدر المبهور وكؤوس الشاي حين تدور ...
البيّض ... يا مدينة النظافة والثقافة والقيافة ... فيك تبدو الشوراع متاحفَ للجمال، وتبدو المنابر مراصد للكمال، وتبدو الذاكرة دليلا عظيما يتقفى آثار السلف في تجلياته المتتابعة وهي تخطو بأناقة ويقين نحو مدارج المجد الذي لا يضاهيه إلا مجدُ صناديد الأبطال في أجيال وأجيال وأجيال ...
البيّض ... يا عظمة البساطة حينما تتحوّل البساطة إلى فنّ الفنون، ويتحوّل سحرُها إلى إلهام الجنون وما تثيره في النفس خطاباتُ العيون ورسائل الجفون ووقفات الذين انتصروا على ريب المنون وأنجزوا ما جاء أمرُه بين جلال الكاف وحنين النون في لحظة حارت في تدوينها الأسفار والمتون ...
البيّض ... يا أيها الحبّ الذي سكن دمي وألمي وقلمي وترعرع في الروح وذاتها وأشواقها حتى عاد هو نشوة الشروق مع كل صباح ودمعة الغروب مع كل مساء واصطخاب الموج حينما تكون النفس بحرا مائجا هائجا وصرصرة الرياح العاتية حينما تعصف العواصف في عوالمي الممزقة باستفهامات وتعجّبات وتقلبات ظلت استفهامات وتعجبات وتقلبات وما وجدت لها مخرجا من ورطتها الدهرية الأبدية ...
البيّض ... يا أيها العشق الذي بدأ سرابا فضفاضا في أحلام أمي وأبي ثم تجسّد ذات ربيع دافئ هادئ في روحي الباقية وذاتي الفانية حينما اندمجتا وخرجتا إلى سحر حنان الطوب وروعة سعة الدروب فتذوقتا معا حلاوة التربة الخصيبة وزكاة المياه الباسمة في عيونها العجيبة ... يا أيها العشق المشخّص في ""لڤرابه"" و""لبْلاد"" و""واد الفرّانْ"" و""رحاة الريحْ"" و""المهبوله"" و""ڤصر العطشانْ"" وغيرها من الأحياء الأنيقة والمباني العريقة والشوارع المتقاطعة بأزقة ضيقة لكنها رشيقة ... يا أيها العشق الموشوم بشجر أحلى من كل الشجر والمرصع بحجر أبهى من كل الحجر والمسكون بنفحات البخور ومعزوفات الشحرور وذاكرة حيّة تسرد بروعة ما حدث في سالف الدهور ... يا أيّها العشق المرفرف في رحاب ""اكْسال"" و""بودرڤه"" و""مريرس"" و""لَڤرْمي"" و""شعبة الخادم"" و""لَخْناڤ"" و""قاضي حاجَه"" وغير ذلك من الفضاءات التي نقشتْ أسماءَها وأشكالها وألوانها في مشاعر الأفراد والجماعات والصفحات اللّامرْئيات ...
البيّض ... تعجبني فيك لقاءات الربيع حينما تبتهج الزهور ويتزخرف النور ويحلولى الظهور والسرور وتتعانق الأرواح في شعور أطيب وأرقى من كل شعور ... تعجبني فيك سهرات الصيف من قمة الليل إذا عسعس إلى غاية الصبح إذا تنفس و""لتاي"" يرفل بين الساهرين، مرّةً واثنتين وثلاث مرات متعاقبات متباعدات، والحكايات تتلوها الحكايات، والضحكات الصادقات الهادئات تتبعها الضحكات الصادقات الهادئات ... تعجبني فيك جلسات الخريف المخضبة بألوان نهاية موسم وبداية موسم في المأثور والمنثور والمحجور والمجرور والمهجور والمعبور وما كان ولم يكن في القديم والجديد من محطات العصور ... تعجبني فيك انزواءات الشتاء حول نار آتية من غيب الدفْء في الليالي الثلجية المتنقلة ما بين صمت كهْفيّ وزمهرير جبَليّ وعطور التوابل المؤطرة لجاذبية ""المرْدود"" الشتوي ، والأجيال المتوالية يوَرّث كبيرها لصغيرها ما تلقاه عن السابقين ويرى وجوب تبليغه إلى اللاحقين ...
البيّض ... يا قلب التاريخ الجميل، ويا رمز الوفاء الأصيل، ويا روح النبل الجليل ... لا يحبّك بصدْق وعشْق ورفْق إلا الجميل الأصيل الجليل من الناس ... حبّا فيك كان الشعر سحرا واللحن وحيا، وكانت البطولة مكْرُمة ليست كأيّة مكرمة والتضحية إخلاص ليس كأيّ إخلاص ... مَنْ عَشق الجزائر الماجدة فأنت مفتاح حبّها ودليل بهجتها، ومن عشق العروبة المجيدة فأنت برهان عزها وسليل روعتها، ومن عشق الإسلام الأمجد فأنت محراب فضله وفضاء نبضه، ومن عشق الإنسانية في كل أمجادها فأنت منارتها الصغيرة بحجمها المادي والكبيرة جدا جدا بحجمها اللّامادي الذي شكّله الإكرام الأخوي لكلّ فم، والوقوف ببسالة في وجه الهمّ والسُمّ، والتضحية العفوية بطاهر الدم، والبحث السرمدي عن اكتشاف مشاعر تخفف من ألم التألم وتبرم التبّرم وتحطم التحطم ...
البيّض ... يا شمسا مضيئة دافئة يرى ضوءها الباصرون وغير الباصرين، ويشعر بدفئها البصيريون وغير البصيريين ... لا يتجاهل جمال وجودك إلا مغموز الوجود، ولا يحتقر تجليات سموّك إلا الخالي من كل سمو،ّ ولا يتنكر لتاريخك إلا من لا تاريخ له ... من خانك ممّن سَمّوْا أو يسمون أنفسهم " الرجال والنساء " وهم مجرد ذكور وإناث كالذكور والإناث التي توجد في الأوحال والأدغال والجبال... من خانك منهم بصيغة من الصيغ المعروفة أو غير المعروفة للخيانة ... من خان أمسك أو حاضرك أو سيخون مستقبلك ... من خان أرضك أو عرضك ... من خان قيمك أو تعدى على شرفك أو ظلم أهلك أو أكل بعض خيراتك ظلما وجورا وعدوانا ... من كان من هؤلاء أو سيكون منهم فإنه لا يخرج عن التصنيفات التالية :
- إما أنه من الحَرْكَى القدامى أو الجدد الذين غزاهم المسخ والنسخ والفسخ فعاثوا في الدنيا فسادا ...
- وإما أنه من اللقطاء حضاريا الذين ضاعت منهم روابط الهوية والمحبة والانتماء فملؤوا القلوب أحقادا ...
- وإما أنه من الفجّار روحيا الذين يهوَوْن ممارسة الشرور جهارا نهارا فصاروا للشر أوتادا ...
- وإما أنه من العبيد المغلوبين على أمورهم، والذين من جبنهم وطمعهم جعلوا السفهاء أسيادا ...
- وإما أنه من الأغبياء السذج الذين استثمر فيهم أعداء السماء والأرض فكانوا للحماقات أجنادا ..
وهؤلاء جميعهم سيذهبون، ويتبددون، ويندثرون، وكثيرا ما في السر والعلانية يُلعنون ويُداسون ...
والسلام لك يا دار السلام، ومنك السلام، وفيك السلام، وعليك السلام، وعلى أحرار أهلك السلام، وعلى أبرار أحبتك السلام، يوما بعد يوم ما دام في الوجود أهل السلام الذين تحيتهم فيه سلام ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إمضاء : الأستاذ الدكتور بومدين جلالي - الجزائر

ربما تحتوي الصورة على: ‏شخص واحد‏