القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

الطاعون.. قصة قصيرة. بقلم: ليلى عبد الواحد المرّاني/ العراق

الطاعون.. قصة قصيرة. بقلم: ليلى عبد الواحد المرّاني/ العراق

الطاعون

  مبلغٌ كبير بالنسبة لها، زهيداً تافهاً يراه، هي الفقيرة، حياة بؤس تعيش بعد أن هجرها زوجها، وبأخرى تزوّج حين لم تنجب له الطفل الذي تمنّى، في جحرٍ مُعتمٍ، رطب سكنت، مع عائلةٍ لا تقلّ بؤساً عنها، من فتات بيوتٍ تعمل فيها، تسدّ جوع بطنها، وتستقطع من نقودٍ قليلة، أجورها على تنظيف بيوتٍ مُترفة، تضعها في خرقةٍ بالية، حفرت لها في أرض غرفتها الترابيّة، مطمئنَّةً أودعتها هناك.
  فُجعت حين عادت يوماً لتجد الحفرة فاغرةً فاها، لطمت خدّيها، وعلا نحيبها، وعيون صغار البيت تراقبها بجزع وتساؤل، مريضةً ترتجف، ارتمت على الحصيرة التي اتخذتها فراشاً، وعن العمل انقطعت أياماً.
قريبٌ لها لجأت إليه، مدرارا من مآقيها، بحرقة مع النشيج؛ سال دمعها والكلمات:
– أردتُ أن أوفّر ثمن كفني، لكنَّها سُرقت…
بعينين تنزّان دنانيرَ، قال:
– ستكون فلوسُكِ بأمانٍ عندي. …
رفع نظّارته السميكة، فبدا أنفه كبيراً، معقوفاً.
– هي لكفني وتكاليف دفني، يابن عمّي .
هزّ ابنُ عمّها رأسه مؤيّداً، وإلى عملها عادت من جديد، مطمئنّةً، نقودها بأمانٍ ستكون عند ذلك القريب الثريّ.
زوجةٌ في عشّ صغير، ورجلٌ أحبّته، وهبته كلّ ما تهبُ أنثى لرجل، إلاّ ذلك الحلم الذي لم يتحقّق، الطفل الذي يملأ البيت ضجيجاً، ودفقاً.. واستمراراً، زوجةٌ جديدة ملأت البيت صغاراً، تخدمُ الجميع بصمتٍ أصبحت، فقط كي تستشعر أنفاسه، ذلك الزوج الذي هجر فراشها، منكسرةً تجرّ قدميها خرجت حين اختنق، وضاق بها البيت الصغير، وبضعة دراهم تصدّق بها من كان بالأمس زوجها؛ دفعتها إيجاراً لذلك الجحر الرطب؛ استيقظت من دوّامة ذكرياتها، نظرت في وجه قريبها الذي كان منهمكاً يلمِّع قطعةً فضيّة وبتردّدٍ وخجل، وضعت أمامه صرّةً صغيرة، تناولها بإصبعين، وبسرعةٍ ألقى بها في درجٍ صغير…
– ألا تعدّها؟
رمقها بنظرة ساخرة، أخرج الصرّة ورماها بوجهها،
– عدّيها أنتِ….
لم تفعل، خرجت مسرعة… تثاقلت أنفاسها وهي تُحصي عدد ( الصرر) التي أودعتها لدى قريبها ذي الأنف المعقوف، والنظرة الساخرة. سنين تعبٍ ومرضٍ طحنتها، فتقوّس ظهرها، والصورةُ قاتمةً تطاردها ليل نهار.. تؤرّقها، تعذّبها، أن تموت بلا كفن…. ولا قبر.
إلى قريبها سلكت طريقها تتوكّأ على عكّازها، آلمها تجاهله، ضربت الأرض بعصاها، مستنكراً رفع رأسه..
– يا هلا …
من بين أسنانه خرجت، وعاد إلى عمله من جديد،
سؤالٌ خائفٌ، متردّد تعثّر على فمها:
– هل تعطيني نقودي؟ ….
رصاصةً قاتلة كانت نظرته، صاحبتها ضحكةٌ، ارتعدت لها مفاصلها،…
– عن أيّ نقودٍ تتحدّثين؟ …
– التي أودعتها لديك،…
– ليس لكِ شيءٌ عندي…
وقبل أن تكمل جملتها، ” فلوسي التي… “، وجدت نفسها بدفعةٍ قويّةٍ من يده، مرميّةً عند باب المحلّ. لملمت أشلاءها منتحبةً حين أعانتها يد غريبة على الوقوف: ” مَن يصدّقني إن قلت إنّ قريبي سرقني؟.. هل يصدِّقون بائسةً مثلي.. أو ثريّاً، وجيهاً مثله.. يصدِّقون؟

}