القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

وصيَّة جواد.. قصة قصيرة. بقلم: أحمد عثمان/ مصر

وصيَّة جواد.. قصة قصيرة. بقلم: أحمد عثمان/ مصر

وصيَّة جواد

.. تتوارى حُمرة الشفق حثيثًا أمام ظُلمة المساء.. يهدر من بين الأعلام الكثيفة واللافتات ـ التي تعلو الرؤوس ـ صوت الجموع المحتشدة بلا انقطاع.. كل الأعمار ممثلة هنا، ذكورًا وإناثا.. غضب عارم يندد بالفساد، ويطالب بالتغيير..

  من بين التجمعات وكُتل الأجساد؛ يتسلل بجسده النحيل، وملابسه الرثة يعلوها معطفه المهترئ، وشيب شعره المُغبَّرالمُرسل في لَبَد.. ينوء ظهره المُحدّوْدب بكيسه الكبير، وهو يواصل ـ بمشقة ـ تخلله الحشود صوب هدف يبدو أنه يعرفه جيدًا.. وجهه الممتقع، وشُحار صدره في شهيقه والزفير؛ كلها تشي أن قلبه ليس على مايرام .. بين الفينة والأخرى يرفع أنفه لأعلى ليتصيد شهقة أُكسُجين تريح صدره.. لاأحد يأبه لحاله، ولايأبه هو لأحد سوى الوصول إلى هدفه..

  يمضي يشق طريقه كشق قناة في صخر.. بين الحين والحين يُظلل عينيه بكف يُسراه ـ اتقاء أشعة الضوء التي تؤذي ضعفهما ـ ويصوبهما تجاه النُصُب؛ يُقيِّمُ المسافة بينهما؛ بينما يُمناه تضم ـ بقوة ـ فوهة الكيس الذي يحمل، قابضة عليه مخافة أن تُسْقِطه عشوائية حركة الجموع التي لاتهدأ؛ فتهرس أقدامهم مايحوي..

  عند مسافة من رصيف النُصُب ـ كأنما قدَّرها من قبل ـ يقف.. يرفع عينيه لأعلى، يتأمل الجدارية، تحتضنها نظراته في حُنو، تتحسس وحداتها قطعةً قطعة، ونقشًا نقشا.. يطمئن أن كل شئ على حاله كما تركه من زمن.. يطبق جفونه، ويسحب نفسًا عميقًا من نسيم المساء؛ يملأ به صدره.. يهدأ شحاره ويسكن مع توالي الشهقات الطرية .. سِنةٌ من سكينة تغشاه.. تاريخ طويل ـ يسكن خلاياه ـ يُلح على مُخيَّلته، ما بين حضارات تزدهر، وهمجية تطفئ جذوتها؛ تعيث فسادًا في البلاد والعباد.. وجوه لاتُحصى ذهبت ـ تطابقها نفس الوجوه والملامح التي تعج بها الساحة ـ تمر أمامه، أرتال تلو أرتال .. دورات تتعاقب بين الصحو والغيوم ..

 تطوف عيناه بأرجاء المكان في سَبْحة تأمل، كأنما يعيد اكتشاف الموجودات من حوله، البشر والحجر، والنخيل والشجر، والأضواء.. تستدعيه الجدارية من جديد؛ فيمسحها من أقصاها إلى أقصاها، وهو يهز رأسه بهدوء وأريحية، وكأنه يُعضَِّد ـ في داخله ـ صحة ماارتأى من زمن بعيد..

يبسط الليل أشرعته وئيدًا؛ يطارد المساء .. مع تقدمه تهدأ الأصوات وتخفت إلا من لغط سمرٍ لاتستوعبه أُذُناه.. يرفع جسده راية الوهن، تكاد ساقاه تتداعيان من فرط ما لاقتا من طول مسير ووقوف، بينما كاهله يتذمر مما ينوء به ـ طوال الرحلة ـ من حِمل.. آهة عميقة تندُّ عنه، وهوعلى وشك أن يتهاوى، ولكنه يتحامل، ويناجي نفسه:

ـ تماسك يافتى.. أوشك الجواد أن يصل

يمَّم صوب الجمع المتناثرة حلقاته في رحاب النُصُب؛ يتفرَّس الوجوه..

توقفت نظراته عند أحد الشباب؛ تتأمله ملِيًّا.. شئ ما جذبه إليه.. يقين يتنامى داخله يجعله يُجزم أنه يعرفه.. انتبه الشاب لنظرات الرجل إليه؛ فيقترب منه يحمل تساؤلاته:

ـ أراك أطلت النظر إلىّ يا عماه.. هل تعرفني؟.. أوقن أنك لست من المندسِّين

تفتَّر ثغر الرجل عن ابتسامة ودود، قبل أن يجيبه:

ـ نعم ياولدي أعرفك، ومن زمن طويل يُشارف الستين

تفاجأ الشاب بالجواب، انتابته الريبة حول صحة عقل الرجل، تحدثه نفسه:” ربما هو الخَرْف” .. توقع الرجل مايدور بعقل الفتى فيعاود الابتسام:

ـ أنا بكامل قواي العقلية يابُنيّ.. أعي مادار ومايدور، فلا تقلق

ـ إذًن لماذا كنت تحدق فيّ من بين أقراني؟

ـ توسمت فيك المروءة لتساعدني، فهل تساعدني؟

ـ طوع أمرك ياعم.. كيف أساعدك؟

توكأ الرجل كاهل الفتى، وهو يشير إلى مرتكز الجدارية الأيمن

ـ خُذني إلى هناك، بجوارهذا الحائط

استدار الفتى ـتدفعه نخوتهـ يريد أن يحمل عن الشيخ كيسه؛لَمَّا رأى ماعليه من تعب وإرهاق، فأبى بلطف وهو يربت على كتفه قائلاً:

ـ دعني أُتم حمله حتى نصل، ثم ساعدني أن يسكن إلى جواري في سلام.

امتثل الشاب لمراد الرجل، فلما جلس وألجأ ظهره للمرتكز واطمأن لكيسه تحت جناحه؛ انطلقت ـ رغمًا عنه ـ تنهيدة عميقة، وتمتم بكلام لم يستطع الفتى أن يتبينه، فقال في نفسه:” لعله جائع .. بل هو كذلك” فاستأذنه:

ـ دعني آتيك بشئٍ من طعام، وقنينة ماء مما نحمل..

وهمَّ أن يذهب، لولا أن استوقفه صوت الشيخ:

ـ لاحاجة لي بهما.. هجرتهما من زمن بعيد

فلما رأى ملامح الريبة ـ من رده ـ ترتسم مجددًا على مُحيَّا الفتى؛ بادره:

ـ لاتقلق .. اعتدت ذلك، ولكني استسمحك أن تعودني مع الفجر

خمدت الأصوات، وران السكون على الساحة .. فلمَّاتنفس الصبح، وعلا صوت الأَذان؛ دب في الجمع الحِراك …

توجه الشاب بصحبة جماعته صوب الرجل ـ بعدما قص عليهم حكايته معه ـ وفاءً بالوعد.. فلما دنا من المكان؛ جفل مذهولا.. ونظرات حائرة تطفر من عينيه، تصطدم بنظرات رفاقه، ولسان حالهم يتساءل.. أين الرجل؟!

الموضع خالٍ إلا من كيسه فارغًا، وجفنة عظيمة من نحاس تتخذ وحداتها هيئة سعفات النخيل تستأثر بالمكان ..

ـ ربما ذهب لبعض شأنه، أو قضاء حاجة.. قال أحدهم

أَبَى حدس الشاب أن يصدق مقولة صاحبه.. اعترت ملامحه الريبة، واستبد به توجسه، وصوت يتردد بين جنبيه يصارع حيرته، يميل أن يصدقه؛ بأن الرجل لن يعود .. شعور بالمسئولية تجاهه يعذبه:” أليس هو من اصطفاني من بين إخواني لأساعده؟.. أليس هو من طلب مني أن أعوده مع الفجر؟ .. أأكون قد تخاذلت؛ فاستبطأني، فمضى إلى وجهة لا أعلمها؟.. قال إنه يعرفني، وهذا يزيدني مسئولية نحوه.. تُراه أين ذهب؟ وهل يمكن أن يعود؟”

  انتشله صوت جاره من وخز ضميره؛ حين راح يمتدح جمال الوعاء، ودقة نقش سعفاته، متسائلاً:

ـ ماهذا الوعاء الذي ترك الرجل يا “فلاح”؟ وماشأنه؟

ـ وما يدريني .. دعنا نرى

تقدم حيث موضع جلسة الرجل، ورفاقه من خلفه، يسبقهم شغفهم لاستطلاع الأمر .. تحلَّقوا حول الوعاء، فتنتهم دقة صنعته، وتلك السعفات التي تكاد تتماوج مع نسيم الصباح ..

  ـ هذا الجمال ليس إلا لمسات فنان ماهر.

  أمَّن الجمع على مقالة صاحبهم.. دنا “فلاح” أكثر ـ يدفعه نهمه ـ لاستطلاع مكنون الوعاء، وإيحاء تشكيله.. توقفت عيناه عند ورقة مصفرة يبدو عليها القِدم ترقد بالقاع.. انحنى ملتقطًا إياها برفق..جرت مقلتاه تلتهم الكلمات الباهتة المُسطَّرة في رشاقة بحبر سائل.. اعترته أمارات الدهشة تلون وجهه، تزاحمت عيون الرفاق فوق كتفيه يدفعهم الفضول.. تدافعت تساؤلاتهم تستوضحه:

ـ ما هذه الورقة يا “فلاح” ؟ وماذا تحوي؟.. إقرأ علينا

تضطرب الورقة مع ارتعاشة يده، يزدرد ريقه ليرطب جفاف حلقه.. لاتطاوعه الكلمات، تتكسر على شفاهه، وتخرج غامضةً، مُلغَّزة.. لم يفهموا مما تفوه به شيئا.. سلَّها جاره من يده، وراح يقرأ عليهم: (هذه شُعلة جداريتي ” الحرية” التي تقفون أسفا نُصُبها الآن.. ولأن الحياة لم تمهلني لأُثبِّتها في موضعها؛ فقد احتفظت بها في تابوتي حتى يحين أوانها.. وقد حان..

أوصيكم ـ يا أبنائي ـ يامن تتحلَّقون حولها متسائلين؛ أن ترفعوها أعلى الجدارية.. اجعلوها في منتصفها؛ فوق قرص الشمس

زوِّدوها بالوقود، ثم أشعلوا شعلتها

واظبوا على وقودها.. ثم استوصوا بها أبناءكم ..

الآن أستريح، وأرقد في سلام …………………………… جواد سليم )

سرَى الخبر في أرجاء الساحة مسرَى النار في الهشيم .. والجموع تتنامَى حلقاتها اتساعًا حول الشعلة ؛ يرفعها “فلاح” ورفاقه ..

}