قمـــر ..
" لا يتهيأ لمبادلة القناص العين بالعين و تذويق انف الارنب لتدريب الاصغاء على احتمال هرولة الجبال حتى موعد مؤجل لا يؤخر الاحتمال الذي يفوض القيمة و المغذي من ترميز اللوحة السريالية الناقصة . الشاعر " مصعب الرمادي "
" ماهي الاهانة ان لم تكن نوعا من التطهير بل انها اشد انواع الادراك ايلاما وسحقا "
دوستويفسكي ـ Достоевский
-1-
بمرارة تتذكر بأن خطاها الواثقة, لم تكن تعرف طريقاً آخر بعيدا عنه .. , بينما كانت خطأه في عناد واضح , كثيراً ما تضل طريقها بعيداً عنها .. , تستعرض داخلها بأسي بالغ علوها الاجتماعي المميز الذي كان .. , وجملة القيود والمحاذير التي تحول دون مجرد التعرف أوالالتقاء بها , ناهيك عن طلب خطب ودها .. ، شىء ً بعيد المنال وأذ لم يكن صراحة من المستحيلات , لأنها وببساطه شديدة تتحدر مباشرة بجمالها الساحر الفتان من أرومة ذاك الفرع النادر من نخب حى " الهاشماب " و"السردارية " , المثقفة والمرفهة بالوراثة وذات المرجعية والوزن الحزبي الاعتباري الكبير , والثراء المعروف العريض ورغم تهافت العديد من الخطاب .. و وجاهتهم , الا أن ظهورة كطبيب جراح منظم ونابغة , وينتسب فوق كل ذلك لسبط الشيخ ود " علم الدين " سيد السجادة النورانيه الكبري , مع تأكد ترشحه للوزارة الاتحادية القادمه , متى .. مافاز حزبة .. ويا سبحان الله .. ذو الاغلبيه البرلمانية وفى أى أنتخابات نصفية أو تكميلية قادمة , وبالطلع ما سينتظرة من مستقبل باهر .. وزاهي مفروش بالورود كما يقولون , كل ذلك على ما يبدوا حسم كل الامور لصالحه تماما وبغير جهد أو حتي كبير عناء , على الرغم من أشتطاط الصراع الاسري الطويل والخفي خلف الكواليس .
وها هى الان نفسها والمغلوب على أمرها , تجترلوحدها بقسوة لحظات السعادة الاولي الافله , وزواجها الكبير الخارق للعادة , والذي رتب له فى ذاك الزمان الراقي الجميل , أن يتم وسط كل مظاهر الابهه والوجاهة الامدرمانية الرصينة والمتوارثة جيل بعد آخر , والذى جلبت مستلزماته بسفرها شخصيا هي ووالديها لعواصم الموضة البعيدة , وعلى أيامها بيروت ولندن وباريس وبتذاكر مفتوحة , والذي ملاء الدنيا .. بعد ذلك ضجيجا وصخبا وشغل الناس .. , وظل لفترة طويلة حديث كل مجتمع العاصمة المخملي .
ثم تطفر فجاءه في مخيلتها أزدواجية , معايير كيله لها بعد ذلك والتي ما زالت رغم بعد السنين والشقه , مغلفه في عينية وتحضره مجرد زيف ورياء , رغم نفيه الدائم لكل ذلك , بل تجدها تصرخ داخلها بضجر :
" ـ أنا أنحاز لك ولصغارنا .. وأنت بسلامة قدرك تنحاز لمن غيرنا .. ؟؟ا
-2-
بحرقه تستدعي في ذاكرتها المتداعية , فواصل خريف ثمانيني جامح تطبق بثقلهاعلى دنياهم , والتي يحسب كل من حولهم بانها حتماً ما كانت تمور سعادة وهناء , ولكن على النقيض من ذلك تستوقفها دائماً تناقضاته المبهمة , وصمته الساذج المحير , وحيده وما زالت وهي بقربه وبحجم توهمها البارحة فقط ..
بإمساكها ببارقة أمل عودته نادماً اليها , وبتلابيب ليله منفلتة أتت تبرق وترعد باتربه كاسحه وأمطار, لا قبل لحيشانهم الممتدة شموخ وأرتواء ما بين الموردة .. والخور بها ..
بمرارة تكاد تحسد عليها, كانت دائما وكلما سنحت الفرصه تأخذ زمام المبادرة ولتواصل حكيها الآخر الموازى والمختلف تفضفض ما بداخلها , وهم ونحن كنا بالطبع آذان صاغية ,وهي تقول يومها وفى دراما موجعه وفيما يعني أو يشبه التحسرعلى شىء مضئ أوأنقضي أو ضاع وكحلم مطوي قديم .. بعيد .
ـ السماء بدأت تلك الليلة الليلاء, أشبه بقربه ماء منبعجة أنشرخت جوانبها فجاة , عن ماء سخي . البرد كان له صليل مسموع .. , والظلام الدامس له سطوة .. سطوة تتفوق على أي أحساس لها الان بالوحدة والوحشة .. , تتمدد هي والامل والاتربة العالقة كما الأوهام , تحاصرها بل وتطبق بكلكلها على مدي الرؤية بالخارج .. , الريح الهوجاء كانت هى الأخري لحظتها تضج بالخارج , تعصف مرتدة ثم تعوي .. تعوي ككلاب " زريقة " المسعورة , البرد بعناد يصم أذنيها .. , ويشظي سمعها ويجعلها تبدوا والوحدة التي تطوقها سيان ، وأحساسها الجازم الان .., كما لو أنها تمتلكه تلك الليلة .. , أو لربما تمتلك نفسها هى على الاقل وكينونتها وزمام المبادرة , تسكنها بالاحري وللأبد قيود هذه الليلة مجتمعه , وغربتها الان بجواره , وخور " أبوعنجة " على مرمى ناظريها ، فارد جناحيه بحنؤ للسيول الجارفة والامطار.., ليمتليء في رمشه عين عن أخره ، وكأنه يتواطئ هو الآخر وعوامل الطبيعة في حركة التفاف كبرى حوله ، لتشل خطأه الواثقة اليوم عنوه عن العيادة وأجواء الهاشماب , وبقية الشلة بشارع الفيل .. .
تحاول أن تهدم بمعاولها حاجز الرتابة والصمت بينهم ، تحاول رغم ما يشيعه وجوده وسطهم وتكوم الأطفال من حوله من ألفة ومحبه , تحاول بالاحري أن تتحرر هى نفسها من فوضى الرهبة والخوف الذي ينتابها , كلما حاولت الخروج عن المألوف ومواجهته وحسم ما بينهم من تجاهل وفتور ، تحاول ولو بأضعف .. الإيمان أن تسقط ولو حجرا صغيرا فوق تلك البركة الراكضة بينهم , من الصمت والوحدة .. يقتاتها بالطبع تهميشه المقيت والمستمر لها وسطوته الطاغية , وهذا الخواء الذي يعتصرها ، تود فى تلك اللحظة بالذات لو تصرخ في وجهه وبأعلى صوتها:
ـ لما تزوجتني ؟ اا من دونهم كلهم .. ؟؟؟ ااا , غير أنها أنزوت فجاة مرتعبه أمام حضوره الطاغي .. ولم تفعل .. " .
بعرض الكون كله , كان ذاك اليوم يتشعب أخطبوط الوحدة داخلها ، وخيارها المتاح وما زال أن تقف هكذا دائماً عاجزة , وفي كل سانحة من مواجهته وحسم أمرها معه , والانتصار بجديه ولمعاني كبرياءها المهدرة ، هكذا طوعها بالسنين الطوال أن تستسلم للقهر وأن تبتلع بانتظام التهميش والدونيه .., وأمام ناظريها أطنان الثلوج والحواجز التي أقامها دون مبرر معقول .. لتبعد بينهم في قسوه , فهو وبحكم القوامة وتحكمه في كل شىء , أحالها الى شيء أخر مختلف أشبة ما يكون بالدمية .. ,فهو ينشدها دائماً أن تكون هكذا طوع بنانه ورهن أشارته ، متى ما أشتهاها ليعود وبذات المنطق الغريب أن يودعها بعيداً عن محيط تفكيره , ولتلوذ بالاحري بشئون بيتها وصغارها , أما هي وبحكم تحضرها وتربيتها وثقافتها العالية الظاهر للعيان, تتطلع للعودة لوظيفتها الجامعية المرموقة والتي هجرتها بالفعل من أجله , وبأحدى البنوك الكبري وتطلعها لتستحوذ بالتالي على دور أكبر في حياته يتجاوز الإيداع والاشتهاء .. .
يومها وبالصدفه المحضة كانت تسترق السمع خلف الباب , مرتابة تفتعل لحظتها مناداته بتحفظ يستهويه , ليقوم بدورة بتقديم الشاي لصديق عمرة الوحيد وضيفه الاخصائى الشهير, بروفسير " موسي " , حين صدمها في تلك اللحظه , بصوته المنطلق على سجيته , وهو ربما ينهشها لمحدثه بتبجح وبدون أدنى كياسة أو حتى أدنى تحفظ , وهو يقول له بتكلف ونرفزه .. :
ـ " .. لا..لا يا بروف "موسى" .. هي لا هذا .. ولا ذاك ؟اا, .. هي أختيار
..أمي طبعاً .. ؟ااوأنت تعلم بأنني دائماً أحترم أختيارها ..اا " , بحساسيتهاالمفرطه تجأهه وتوجسها , أدركت بالطبع بأنها حتما قطعا المعنيه و في كل ذلك ، لحظتها هتفت داخلها وبحرقه :
ـ نعم أنا أختيار أمك .. وهل في هذا سبه .. يا دكتور ومن أي نوع .. ؟؟ اا" , بل كادت أن تخرج عن طورها لتقتحم مجلسهم ولتصرخ في وجهه وأمام ضيفه :
ـ نعم أختيار أمك.. يا دكتور .. , ولكن أسفي الشديد .. أنك لم تبلغ رشدك بعد .. لتختار من هى فى مثلي .. اا " , غير أنها تماسكت بالطبع فجأة ولم تفعل , مرجحه كفت حيائها ، ولدرجه جعلتها تبتلع مختارة صوتها .. على مضض .. .
-4-
أما ثورتها العارمة ذاك الصباح الباكر بالذات , وتصميمها على الانفصال منه لا تحدها حدود ، ووالدتها وشقيقتها " علا " بالقرب منها يهدون من روعها وثائرتها , وهي تجار لهم بمر الشكوى .. , من تهميشه الواضح والمهين لها ، وتحفظه الزائد والذي لا يتعمد بة شىء سواء الغاء شخصيتها وكينونتها .. , ويمنعها منعاً باتاً .. من العودة معززه مكرمه لوظيفتها المرموقة , وأمها بالطبع كعادتها دائماً بالقرب منها تواسيها بشفقتها المعهودة قائله :
.. ؟؟اا ووظيفة شنو .. ـ ودور شنو .. كمان يا بنتي ؟ ..
ـ لا ترفسي نعمتك بيدك ", لتواصل قائله :
ـ " خليك من دى كله .. وأنتبهي لبيتك ولأولادك .. وبس .. كان عاداني ليك أم .. وصليحه ليك ؟؟ااا" , ولتلتفت لأختها متسائلة :
ـ باللة قولي لي يا " علا " يا بنتي .. ؟اا , فى ذمتك أختك دي شنو أسع الناقصها .. ؟! , لتنتفض منفعلة ولترد عليها:
ـ ما ينقصني.. يا أمي صراحة أهتمامه بي .. وكلمة حب واحده .. يثمن بها أخلاصي وتضحياتي له .. , فهو حقيقة معي بجسده .. , أما عقله وقلبه فمعها .. هي ؟؟؟ااا, حتي أنها قالت فى داخلها :
- ـ " وللحد الذي تجرأ معة البارحة .. وبدون أدنى مبرر معقول ليضعني في مقارنه .. غير متكافئه بيني وبينها ...ـ " وهو يعلم تماماً .. كم هي صديقتي ..؟؟اا" ..
حينها كادت أختها ولتخرجها من وسوستها المزعومة , أن تسالها وفي جراءة غير عاديه عن من تكون تلك .. , التي سلبت لبه وعقله حقيقة ..؟؟اا, غير أنها ولمعرفتها بحساسية سؤال مفترض كهذا.. , وما سيجره من ويلات وعواقب لا حصر لها , أنزوت فجأة مبتلعة صوتها هي الاخرى .. ولم تفعل .. .
بعد ذلك مضت بالطبع ، تبتلع بالسنين والغربه والتهميش ومر الشكوى ، أنزوت بعيداً متقوقعة حول نفسها ، تتقن ذاك الدور الذي رسمه لها المجتمع والتقاليد القاسية ، ونسيت كل شىء تقريبا حتى بزوخ فجر ذلك اليوم المغروز في شعاب ذاكرتها وما زال , والذي وصفته لنا بانة كان حقيقة متفرد الفرحه والروعة , والذي جاء يحمل البشرى الكبري الساره والمنتظره بالطبع والتي حلت بة هو شخصياً , وبوالدته الاستاذه المربيه عميدة كليات المعلمات ، وهم يستقبلون أفواج المهنيين باطلالة المولودة الانثي الأولي , .. بعد سبعه من الأولاد الذكور .
يومها وكالعادة نحرت الذبائح وعم الاحتفال والفرحة الداني والقاصي , وشلة الاهل والأحباب يلتفون حولها , وكالعادة يتسلل بدون أستئذان فجاة , صوت القابلة حاجه " زينب " وسؤالها العفوي لتسجيل المولودة في كشفها وسجلاتها المعروفة :
ـ " شن سميتوها يا دكتور؟؟.. " , ليأتي ردة العفوي والمذهل وفي بساطة وبأعصاب باردة :
ـ طبعا , .. سميناها " قمـــــر "..؟؟ اا .
-5- ,
عندها ولاول مرة يراها تنتفض كالملسوعة في وجهه ، وكأنها تحاول أن تعلن إمامة وأمام كل الحضور .. , رفضها لتماديه المهين في غيه وابتلاعها بالسنين للمهانة والمذله , بل صوتها بالطبع جاء حاسماً وحازماً هذه المره بالذات :
ـ دكتور " طلال " , ليلتفت اليها غير مكترث وكما يحدث وفي كل مرة سابق .. ، غيرأنها كانت مصممه هذه المره على أن تكسر والى الأبد حاجز الرهبه .. ، متخطية كل المحاذير لتقول له وبصوت واثق :
ـ " أرجوك طلقني ؟؟؟ااا.. وأسع وحالاً .. ؟؟اا " ..
شلته بالطبع المفاجاه , وأمام كل هذا الحشد من المدعوين ، ود لو يتماسك .. ود لو ينزوي بعيداً .. , بل ود لو يتقبل حقيقة خروجها الجاد والمعلن عن حياته ..
بحث طويلاً عن صوته المفقود ,.. ود لو يجده ليرد عليها ..
أويبتلعه حتى .. فلم يجده .. , فخروجه هو ألآخر كان مثلها ..غير عادي .. وبتحدي .. وبدون عودة .. .
تمت ,,,
فتحي عبد العزيز محمد
بودابست ـ مقهي الانجلكا
/2002/2/6م
الكاتب السوداني: فتحي عبد العزيز محمد |