في إطار سلسلة اللقاءات التي أقوم بها بقصد اتاحة الفرصة امام المهتمين بالشان الثقافي والابداعي والكتابة الادبية بشكل عام والذين قد يعانون من ضائلة المعلومات الشخصية عن اصحاب الابداعات الثقافيةعبر انحاء الوطن العربي الكبير،لذلك فان اللقاءات بهم والحوار معهم يتيح للجميع التعرف عليهم من قرب والتواصل معهم مستقبلا
ويأتي هذا اللقاء رقم ( 196 ) ضمن نفس المسار
وفي ما يلي نص الحوار
س \كيف تقدم نفسك للقراء؟
السلام علينا جميعا، أعتقد أنني الآن أتساءل كيف أؤخر نفسي للقراء؛ لأن فعل التقدم حقا بدأ، وليس ممكنا أن أصف كيفيته التي لم تكتمل، إنها فعل آني يحدث بشكل مزامن للمشي في مجاز هذا السؤال.
إذن أنا لا يمكنني تقديم نفسي للقراء، إنما يمكنني ذكر اسمي الذي سيقدم لهم نفسه في حدود ممكناته التي تحكمها مصادراتهم القبلية عني، مع أني أعرف أن الأسماء لا تقود إلى الأشياء ذاتها؛ فهي محض رموز لها؛ محمدالمختار/محمدأحمد (مُختارْ)
موريتاني ينعته الناس بالشاعر وهو أيضا ينعت الناسَ بالشعر.
س \إنتاجك الأدبي؛ نبذة عنه ؟
إنني لا أرى ما كتبته حتى الآن نتاجا بالمعنى الفعلي لهذه المفردة،
هنالك مشروع كتابة عندي، وما دام هذا المشروع لم يخترق حاجز الذاتية ليحضر فيزيائيا في الورق فإني أتحفظ على تسميته بنتاج، ومهما يكن فإن ما أسميتَه نتاجي، يدخل أساسا في حيز الشعر، فأنا مجبر على آخَري الشاعر، ولدي في هذا الجانب مجموعة شعرية ستخرج للطباعة قريبا، إن شاء الله، في المقابل هناك بالتأكيد مشروع اهتمام بالتأليف النثري، لكني أستبعد إنجاز أي شيء غير الشعر في الأمد القريب، رغم أن تأخر الإنجاز هذا يفرز قلقا إبداعيا مزعجا كمحنة الربو التي تصيبني بسبب الحساسيات، ذلك القلق هو الذي جعل الشاعر الإنكليزي ت.س.إليوت يقول عن مخطوطة شعرية له حين ضاعت "أنا سعيد أن المخطوطة قد اختفت"
لأن اختفاءها يشبه طباعتها، كلاهما نوع من الخلاص منها.
س \من وقف بجانبك مشجعا؟ وما تأثير ذلك على حياتك الأدبية؟
أنا أعتبر الأدب معركة شخصية، إنه قفص مغلق يصارع فيه الأديب نفسه، ليس هنالك لاعب ثان ولا حتى حكَم ليدير المعركة.
مما ذلك أقول إنني دخلت معركة الأدب وحدي وبكامل قواي الجنونية، لقد رغبت في هذه الطريق أو رغبت في هذه الطريق، ثم سلكتها هكذا، لم أهتم للذاهبين ولا للعائدين، لقد سلكت الطريق، ولكني أعرف لماذا سلكته، فلست مثل "دجاجة الفلسفة".
رغم ذلك، وتصديقا لحتمية طبيعتنا البشرية متمثلة في استحالة عيشنا معزولين، وتسليما بفكرة التشجيع بما هو إشعار بحالة نفسية تقول للشخص "إننا معك"، فإنني أعتبر أن كل أهلي وأقاربي ومعارفي وأساتذتي وأصدقائي منذ بدايتي شجعوني على المواصلة في عالم الأدب، حقا أنا أشعر بهذه المودة التي تتبعني أينما كنت، ما زلت أذكر الكتابات التي كُتبتْ عني، وأسمع أصداء عبارات الإعجاب والابتهاج، ومازلت أسمع ظلال التصفيق، وأبصر قسمات الوجوه التي تبتسم باحتفاءٍ وهي ترمقني.
بالنسبة لتأثير هذا على حياتي الأدبية، فهو نسيم سماويٌّ منه تستمد الهواء لكي تنمو في حيز جمالي مشمِس، هذه المحبة التي يكنها الناس لنا هي خير بذور الأدب عامة والشعر خاصة، والعالم اليوم بحاجة إلى كل شيء سوى الكُرْه، إنني شخصيا أجد هذا الحب من جميع الناس في بلدي وفي البلدان الأخرى؛ سيان في ذلك القريب والغريب، وأعتقد أن حديثي عنه ليس غُرورا، بل هو امتثال للآية التي تحض على التحدث بالنّعَم.. أوليست المحبة نعمةً؟
س \ما هي أهم المرجعيات التي ساهمت في تكوينك الأدبي؟
ربما كان هذا السؤال كبيرا، مثل شقيقه السابق، أعتقد أن فكرة المصادر والأبعاد التأثيرية دائما تحتاج حفرا في سيرة الشخص وإحاطة نسبية بظروفها، وهذا ما لم يحدث؛ فأنا لم أكتب سيرة ذاتية بعد، لذلك سأحاول الإجابة عن السؤال بشكل لا يحوي كل الجواب.
أعتقد أني مازلت في حيز التكوين فعلا، وسأظل كذلك، لأن المرء ،كما هو معلوم، كلما تعلم أكثر جهل أكثر، لكن رغم ذلك هناك بعض المناحي التي ساهمت في جعلي كما أنا اليوم، أذكر منها الحيزَ الجوثقافي الذي نشأت فيه عموما، حيث أهلي في البادية بكامل صفائها وحرارتها، وحيث منارة المسجد تطل من فوق الغمام، وحيث محظرة أعمامي التي تُدرَّسُ فيها العلوم الدينية واللغويةُ بجوار منزلنا مباشرة، لقد كنت وأنا في السابعة من عمري أرى التلاميذ يتوافدون على الشيوخ وأسمع أصوات القراءة وأشم رائحة الألواح الخشبية وهي تُغْسَلُ صباحا فوق الطُّوب الطاهر..
كما أذكر الشيوخ المسنين الذين ينقلون بخط اليد مكتبات أجدادهم العتيقة، وأذكر هنا طريفة وهي أن أول مرة أسمع فيها بيت "قفا نبك" كانت من حطّاب بسيطٍ يدرس في محظرة أعمامي، وهو اليوم إمام مسجد ومدرس للقرآن.
لقد نشأت في هذا الجو البدوي الثقافي ،إن جاز التعبير، وقد جعلني أتعلم العربية بسبب دراستي للقرآن وحفظه في سن مبكرة، تعلُّمُ اللغة قرّبني من منطقة الأدب، فصرت أتذوقه أكثر؛ مازلت أذكر كيف كنت أقرأ بعض الكتب عند أخوالي قراءة عشوائية في بيت طين عتيق، وأذكر وأنا في التاسعة من عمري، أختي تشرح لي باللهجة الحسانية بعض قصائد كثيّر وأبي فراس المقررة عليها في المدرسة، وكنت أشعر بالاندهاش من الشعر.
هذه بعض العوامل التي حبَّبتْ إلي الأدب والشعر قبل النضج، وهناك بالتأكيد عوامل أخرى لا أذكرها.
س \ما أقرب قصائد شاعرنا إلى نفسه مع ذكرها؟
أقرب قصائدي إلي لا أعرفها حقا، لا أعرف ما قصيدتي الأقرب إلي، ومع ذلك سأعتبر هذه القصيدة هي الأقرب إلي مما يمكنني إخراجه للجمهور الآن
قصيدة وهذا جزء من :
"أقدار على حافة القطار"
هذا خيارُ الحُبّ مثلَ الطيْر طارْ
وأنا وأنتِ نَسيرُ في كَبِدِ القِطارْ
مَعَنا انتظارٌ في الجوانِحِ ناقعٌ
ومَسافةٌ عطْشى كرغبةِ "شهْريارْ"
وَحَرارَتانِ تُرافقانِ طريقَنا
فالْعشقُ حَار طعمُه والطَّقْسُ حارْ !
مُتأَسْطِرانِ أنا وأنتِ كأنَّنا
طَلَلٌ قديمٌ فَرَّ من قَدَرِ الْقِفارْ..
ومُعلَّقانِ على الفراغِ كَفكْرةٍ
لم تَلتقِطْها الْكامِراتُ معَ الدَّمارْ..
نَحتاجُ من زُمَر الشُّعورِ بَهِيجَهَا
يالَيْتَ في الدُّنيا شُعورًا يُسْتَعارْ !
آنَ الظَّهيرةِ في المَحَطَّةِ كنتُ أنظُرُ
لا أَراكِ؛ فَلا أَرى ضوْءَ النَّهارْ !
الآنَ.. أنتِ مَعِي فكيفَ أقولُها
"إنّي أُحِبُّكِ"، كيْفَ أَلْتقِطُ الْجِمارْ..؟
تَعِبَ الطّريقُ من الْقِطارِ ولمْ نَصِلْ..
تعِبَ القطارُ من الطّريقِ ومَا اسْتَدارْ !
الشّمسُ تَرْفسُ ظلَّنا بِشُعاعِها
والْعطْرُ يَنفحُ بيْنَ جِسْمِكِ وَالسِّوارْ..
وَأنا أُعايِنُ ما تبقَّى من دَمي
ملْءَ الْخِضابِ وما تَبخَّر في الْغُبارْ..
تَعَبُ الحياةِ أَذابَنا بحَريقِه
وأَذابَ أُغْنِيَةَ النُّقُوشِ مع الدِّيارْ..
فَكأنَّنا وَطَنٌ صَغيرٌ مَالَهُ
من حَظِّه إلاّ مَصائِبُه الْكِبارْ..
عِشْنا نعلُّ خِيارَنا بدمائِنا
عِشْنا.. ولكنْ فجْأةً ماتَ الْخِيارْ !
س \متى بدأت كتابة الشعر، وهل من شاعر معين تأثرت به في بداياتك؟
أعتقد أني بدأت بسرعة، بعدما اصدمت بالأدب الشعبي والكتابة النثرية، أذكر وأنا في الثانية عشر من عمري كنت أكتب مع أصدقائي في الدفاتر ونزعم أننا نكتب الشعر، ولست مضطرا لإخباركم بأن ذلك كان مجردَ عصاباتٍ من الحروف والمفردات المتكسرة موزعة بين العربية واللهجة الحسانية، ربما كان الميل للشعر حينها تأثرا منا ببيئتنا حيث الشعر بصنفيه الفصيح والشعبي موجود، حتى النساء هنالك كن يقرضن الشعر بينهن.
عندما صرت في السادسة عشر، بدأت في كتابة شيء يشبه ظل الشعر، لكنه لم يشبه الشعرَ إلا في الثامنة عشر، فهو في المرحلة الأولى كان يشبه ظل الشعر، وفي الثانية كان يشبه الشعر، والآن لا أعرف متى سيصير شعرا، إن "الشعر رحلة صيد في ليلة مظلمة" كما يقول شاعر اليونان هوميروس، والشاعر -حسب نزار- حين يصل الشعر انتهى؛ أي أنه لم يعد شاعرا، الشعر هو الطريق إلى الشعر.
بالنسبة لسؤالك عن هل تأثرت بشاعر معين في بداياتي، فإنني لا أعرف شاعرا معينا تأثرت به، لقد كنت كما ذكرت من قبل أطالع بشكل عشوائي، كما كانت تحفني مصادر تأثيرية متعددة، لا تنحصر في الشعر والأدب، رغم ذلك كنت وما زلت أحب شاعر العرب الأكبر المتنبي.
س \ما الرسالة التي يود الأدباء الشباب تقديمها؟
الشباب بالنسبة لي يختلفون في ما يودون تقديمه، فمنهم من يود تقديم رسالة دينية، ومنهم من يود تقديم رسالة سياسية، ومنهم من يود تقديم رسالة اجتماعية، ومنهم من يود تقديم رسالة فنية جمالية، ومنهم من يود تقديم رسالة ممزوجة بكل هذه الكيمياء الأيديولوجية، وقد تتفاعلُ بعضُ المواد وتحرقه رسالتُه، أما أنا شخصيا فأعتبر أن الإنسان الجاد المفيدَ هو الذي يقدم رسالة ما، وأعتقد أن تلك الرسالة تكون صحيحةً حين تكون صحيحةً.
س \كيف ترى المشهد الثقافي في موريتانيا؟ وماذا تريد منه؟ و ما هي أفكارك التي تطرحها لتطوير هذا المشهد؟
سأحاول الاختصار في الإجابة عن هذا السؤال المركب، أعتقد أن المشهد الثقافي الموريتاني اليوم يشبه ما بعد حريق في غابة إفريقية، أو بعبارة أخرى هذا المشهد بدأ يتكشف، بدأت الصورة تظهر، وبدأ الدخان يتلاشى.
لقد كان المشهد في السنوات الماضية للأسف مصابا بوعكة ثقافية، متمثلة في غياب المؤسسات المهتمة، وحضورِ غير المؤهلين على المنابر، مقابل غياب النقد الأكاديمي الواعي، فكان حضورُ مؤسسة اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين في الغالب حضورا فيزيائيا، أما على المستوى الثقافي وخاصة الشعري فكان غائبا غالبا.
اليوم تغير المشهدُ ،كماقلت، بدأت الصورة تظهر، مع الحكومة الجديدة والأسماء الجدية الجديدة في وزارة الثقافة والاتحاد، نأمل أن تنبعث الثقافة وأن تساهم في وعي الشعب وإشْعارِه بالحياة.
المشهد الثقافي بخير عندنا، وهناك مؤسسات متعددة لها الفضل في ذلك، ذكرتُ منها وزارة الثقافة، وأذكر الآن المؤسسة ذات الدوْر الجاد بالنسبة لي خاصة في الشأن الشعْري؛ أتحدث عن بيت الشعر- نواكشوط، هذه المؤسسة شامَةٌ في جسد الثقافية الوريتانية، إنها ترفع الشعر وتسعى بجدية جميلة للرفع من شأنه، فتستضيف الشعراء في أنشطة دائمة، وتطبع دواوين شعرية سنويا، كما تقوم بمهرجان شعري سنوي، ودورات وأنشطة أخرى أسبوعية، بيت الشعر جاء إلى الساحة في حقبة القحط الأدبي، فبعث الحياة في الأدب الموريتاني من جديد.
وهناك أيضا بض الصالونات الثقافية، والأندية الأدبية التي تحاول المساهمة في مسح الغبار عن صورة المشهد الثقافي عندنا.
بالنسبة لسؤالك الأخير عن ماهي أفكاري لتطوير المشهد الثقافي الموريتاني، فإننا في موريتانيا جميعا منظرون، الشعب كله يُنظِّر!
وأعتقد أننا بحاجة إلى التطبيق بدل التنظير، وهذا لا يقتصر على المستوى الثقافي ، مما ذلك فليست لدي أفكار لتطوير هذا المشهد، إنما أتساءل فقط، متى سيكتمل المشهد فعلا؟، رغم معرفتي أن بعضَ الأسئلة أحيانا يظل معلقا بلا أجوبة؛ تماما كسؤال المخاتل جوناثان حين قال
"أتساءل من هو ذلك الأحمقُ الذي اخترع القُبْلةَ"؟
س \كيف ترى الشعر العربي الذي يكتبه الشعراء الموريتانيون في موريتانيا اليوم؟
الشعر العربي في موريتانيا الدولة الشعرية كما أسميها، فإنني أراه من زاوية عامة شعرا يساهم في سد حاجة شعورية لدى القارئ العربي.
مما ذلك سأقول لك إن الشعر هنا بخير عموما، وإن لدينا شعراء يمارسون شعرهم بكامل شاعريتهم ويشكلون شجرا ظليلا في هذه الصحراء الأدبية، أذكر لا على سبيل الحصر الشعراء؛ آدي ولد آدب، المختار السالم أحمد سالم، محمدإدومو، الشيخ نوح، جاكيتي الشيخ سك، والأصدقاء؛ مولاي علي، داوود أحمد التيجاني جا، محمد يحي الحسن، محمد محمود الساسي.. وأسماء أخرى كثيرة لا يمكنني حصرها، لكن في الجانب الآخر أيضا هناك من هم دون ذلك.
الشعر هنا كان يعاني من أسباب متعددة، لكن الجديد أنه صار يعاني من الشعراء وفوضى القصْدية لدى جل ممارسيه، فقليل من يكتب شعرا يحقق إضافة للمكتبات الموريتانية، ذلك في رأيي يعود للمبادئ غير السليمة التي ينطلق منها بعض المهتمين به، وهي مبادئ شاحبة تتمثل في الثورة ضد كل شيء، سواء في ذلك الثورة ضد المنحى الالتزامي الديني، والمنحى الأخلاقي القيَمي، والمنحى الاجتماعي العاداتي، هذه الفوضى التي شابت المبادئ كانت بالضرورة مقدمة سيئة لنتيجة أكثر سوءا، فأصبح سائدُ النتاج مشوها خلقيا وأخلاقيا، كما أصبح الشكل الأدبي ذاته مثل الحرباء يغير لونه كل حين، ولا عجب من ذلك؛ إذ الشكل وسيلة ومادامت الغاية ذاتها التي هي المبدأ صارت مشوهةً فلن ننتظر من الوسيلة غير انعكاس ذلك حيث الغاية كما يقال تبرر الوسيلة.
إن قضية الشكل هذه سببت عطالة للشعر الموريتاني اليوم حيث اختزلته- في نظري- ما بين شاعر تقليدي حديدي لا يستسيغ تغير اللغة بتغير الوقت، وشاعر من جيل "ما بعد مابعد الحداثة" ثائر على كل شيء، ولا يميز بين عناصر ماهية الشيء التي تجعل منه هُويته، وبين القشور غير الضرورية التي هي لوحة أحلام يمكننا محوها متى شئنا.
س \هل يستطيع الشاعر الموريتاني أن يضيف إلى اللغة العربية طاقات جديدة؟
أعتقد أنه للإنصاف ربما كان بإمكاننا تحوير السؤال قليلا والقول هل أضاف؟ لأن إهمال قرنين من الزمن والشعر، ليس موضوعيا، فالشعر الموريتاني القديم ظل حيا منذ الشاعر ابن رازكه حتى استقلال الدولة في العَقد الأول من النصف الثاني من القرن الماضي، بمعنى أننا عند هذا السؤال لا بد أن نستحضر الخاصية التي انفرد بها الأدب الموريتاني، تلك الخاصية التي جعلت منصفين مثل الأديب اللبناني طه الحاجري يصدح بما معناه، إن مسألة ريادة الأدب العربي التي نُسبتْ لمن سبقه لها شعراءُ موريتانيا جديرة بالمراجعة، هذه الخاصية هي كون الأدب الموريتاني لم يعش فترة الانحطاط(بمفهومها الأكاديمي) التي عاشها الأدب العربي بعد سقوط بغداد وما أفرزه ذلك من الْتِهاباتٍ في الحضارة العربية والإسلامية.
لقد كانت موريتانيا في عزلة الصحراء وصلابة المبادئ المحظرية آمنةً من أي غزو ثقافي، وهذا مما جعلها تعيش "عصر الصعود" في عصر الانحطاط، هذه هي الحقيقة، لكن لا أعرف لماذا تُتناسى، هنا أتذكر قولة إفلاطون "لو أن الحقيقة خُلقتْ امرأة جميلةً لأحبها جميعُ الناس"، لكنها للأسف ليست كذلك يا إفلاطون.
في ما يخص السؤال هل أضاف الشاعر الموريتاني للغة طاقات، فإنني أجيب بنعم، لقد أضاف الشاعر الموريتاني طاقات لغوية- وإن كانت إضافته ضئيلةً مقارنة بأسماء أخرى في العالم العربي مثل نزار ودرويش - هذه الإضافات -في نظري- ربما كان شعراء ما قبل الدولة(أي قبل سنة 1960م) أكثر دوْرا فيها، ويمكنني أن أذكر هنا "النقائض الشنقيطية"، و"معارضات"ولد الطِّلبه وتجربته الشعرية عموما، على أنني أذكر بشكل خاص، تلك الإضافة المعروفة للعلامة محمد سعيد اليدالي في قصيدته المديحية "صلاةُ ربي مع السلام"، حيث كتب قصيدة فصحى، لكن بِوزن شَعْبي(حذو إجرادْ) وهذه الفكرة العذراء يبدو أنها تفضي إلى إمكانات شعرية هائلة تعكس ذلك التقارب بين المقاييس الفصيحة والمقاييس اللهجية؛ إذ يقترب هذا (البحر الشعبي) من (مخلع البسيط)؛ لذلك لم يُقوض نظامُ الوزن الشعبي إمكانات الشاعر الفصيح، فعبر بقصيدته الخالدة في هذه الثانئية الغريبة؛ اللغة فصيحةٌ، والوزن شعْبيٌّ، وهذه إضافة جميلة كشفت عن طاقات لغوية مجودة في سياق الوزن الشعبي، أعتقد أنها ظاهرة جديرة بالدراسة والتجريب اليوم، ليس فقط في الوزْن الحساني(ابتوتت لغن) وإنما يجب تجْريبها في الآداب الشعبية العربية
س \هل استطاعت الشبكة العنكبوتية توفير التواصل بين الأديب والمتلقي خصوصا وحضرتك عضو في العديد من المنتديات الثقافية والأدبية، ولك صفحة باسمك على الفيسبوك ؟
حسنا، ربما أجيبك بنعم، لأن الشبكة العنكبوتية وفرت حيزا للتواصل بين الأديب والمتلقي، بل وفرت ذلك بشكل زائد، بإمكان أي كان اليوم أن ينشر ما يشاء، وأن يوصل صوته إلى أقصى بقاع العالَم، الأمر لم يعد يحتاج سوى لمْسِ شاشة.
وهذا شيء جميل بالنسبة لمن يريد الوصول إلى الجمهور، أو على الأصح أمر جميل لمن يستحقه، أما بالنسبة لبعض مسوقي الرداءة الذين أغرقوا المواقع بأشياء لا علاقة لها بالأدب، فإن الشبكة كانت ظاهرة سيئة حين أتاحت لهم هذه الفوضى الزائدة، لقد فقد الأدب طعمه بسبب سيَلان المنشورات التي تدَّعيه، وكذلك مات الكِتابُ ولم يعد لرائحة الورَق معنى، ولم يعد الناس يودون القراءة من مصادرها الحقيقية، بل صار كثيرون للأسف يكتفون ب(تصفح) المواقع التي تشْبه الكتاباتُ فيها حكاية شعبية سمعتها تقول: إن سبب كون المجنون يقول أحيانا كلمات ساذجة لا علاقة لها بموضوع الكلام هو أن ثروتَه من الكلمات فَقدتْ أماكنها الطبيعية في ذاكرته بسبب الجنون، ولهذا اختلطت كلماته فأصبح يقول أية كلمة تعرض له دون معرفة السياق!
هكذا أعتقد أن مضمون المواقع يشبه ذاكرة المجنون؛ لاشيء منظم، يمكن لأي كلمة ساذجة أو موضوع أن يعترض طريقك وأنت تتصفح موقعا، وأعتقد أن هذا من الأبعاد الاستعمارية الخفية في ظاهرة التكنولوجيا عموما، إنها مثل اللغة تتحكم فينا دون وعْي منا، وحتى أنها تتحكم في الاحتمالات والخيارات المتاحة لنا، ليست الوظيفة هي العبودية الجديدة، بل التكنولوجيا.
إن الاعتماد في الواقع على المواقع الافتراضية شيء مضحكٌ يذكرني بأسطورة صينية قديمة عن خَلق الإنسان، تقول "إن الإنسان من أصْل القمل".
عموما لا أنكر فضلَ التكنولوجيا، خاصة على الكتَّاب إذ أتاحت لهم مساحة أفسح، وطبعا أنا شخصيا لي صفحة على الفيس بوك، مع أنني لم أفتحها إلا مجبرا؛ حيث أصبح الشخصُ الذي لا يعيش في العالَم الافتراضي اليوم كائنا من العصْر الحجري يفوته كل شيء، لقد صارت التكنولوجيا مثل اللغة تتحكم في ما أُسمّيه "درَجَةَ وجودنا"، هذا ما جعلني أنضم للعالَم الافتراضي، لكنني لن أنجرف وراء سَرابه، إنني أعيش في الواقع، وهذا أمر ممتاز
https://web.facebook.com/medmoktar.sidi.1
س \ماذا تعني لك الكتابة؟ وأيّة تخوم تمكنك الكتابة من ارتيادها؟
إن الكتابة بالنسبة لي بحر هائل وممارسة الكاتب لها محاولة للنجاة من الغرق، نحن في عالم الكتابة نشعر بعلاقة خاصة مع اللغة، تلك العلاقة ربما هي التي وضحها أحد الأمريكان حين قال "الشعراء يتزوجون اللغة، ومن هذا الزواج تولد القصيدة"،
بالنسبة لسؤالك عن ما تفضي الكتابة إليه وما تدفعني نحوه، فإنه عالم جمالي نضير يشبه رحابة السماء الزرقاء في بيت شعْرٍ أندلُسيٍّ، إن ما تتيحه رحلة الكتابة للكاتب من شعور بالحياة والجَمال لا يمكنه صبُّه في قالب حسي، إنه شعور بانعدام الجاذبية، أو شعور بالروح وهي تغرد في آفاق الوجود؛ بين الواقع والخيال الذي هو المساحة الخاصة بالكتابة والتحليق المطلق، لو أن العالَم مثل الخيال لما عانى إنسانٌ من عدم الحُرية، إن الكتابة بالنسبة لي نافذة إلى عالم الشعور بالحياة والحَرارة والجَمال، لكنها من زاوية أخرى تطل على العناء المستمر والقلق الحامض حين نتأمل فعل الكتابة ذاته، وهنا أورد عبارة شوقي بزيع التي تقول "يعاني الشعراء من شعور بالمرارة ناجم عن التفاوت الذي لا سبيل إلى إزالته بين محدودية الحياة ولامحدودية الكتابة"، هذا الشعور بالعجز أمام لانهائية الممكنات الكتابية مقابل نهائية الوقت شعور مرير، لكنه في موازاة ذلك جميل؛ إذ يدل ضمنيا على وجود مساحات مفتوحة يمكن للشاعر ،والكاتب عموما، الهروب إليها، إنها مساحات خاصة بالجَمال، وأنا في حيّز الكتابة طالما تخيلتُ ذلك العالَم السعيد المشمسَ فوق الغيوم الناس يعيشون فيه بسرور وجَمال لا ينتهي!
س \مشروعك المستقبلي كيف تحلم به؟ وما هو الحلم الأدبي الذى تصبو إلى تحقيقه ؟
أنا لا أحلم، وبالمناسبة إذا حلمت فإنني أنسى أحلامي قبل الاستيقاظ، إن الحلم بمفهومه الطموحي لا يعجبني، إذ أعتبر الحلم تمنيا لشيء ما، وأنا لا أتمنى شيئا، لكن أسعى له حين أريده، هذا السعي لا أسميه حلما، لأن السعي فعل ورجاء وجهدٌ، أما الحلم فهو -في نظري- مجرد مشكلة جميلة، إنه مشاع مثل التمني تماما، واللغويون العرب القدامى انتبهوا لمشاعية التَّمنِّي هذه؛ فذكروا أنه يكون في الممكن وغيره، بينما الترجّي لا يكون إلا في المُمْكن.
لهذا أنا لا أحلم بشيء، لكنني أسعى لأشياء، كل ما يمكنني قوله الآن هو أنني أسعى لأشياء
بالنسبة لما أصبو إليه أدبيا، فإنني أتساءل عنه مثلك تماما، ما الذي أصبو إليه أدبيا؟
أعتقد أني أصبو إلى أن أساهم في إعادة الحياة لهذه الأمة المعطَّلِ وعيُها، إنني شاعر بما نعيشه في العالَم العربي والإسلامي شُعورا زائدا، وهذا الشُّعور هو الذي أود أن يكون مثل كوفيد-١٩ في سرعة الانتشار.
س \أخيرا ما الكلمة التي تقولها في ختام هذة المقابلة ؟
أقول ما ابتدأت به: السلام علينا جميعا وعليك سي الإعلامي الأديب المصري د.صابر حجازي، لك من ناصعُ المودة على الدعوة الكريمة والحوار المفيد، سلاما لك وللقراء أينما كانوا.
————
الكاتب والشاعر والقاص المصري د.صابر حجازي
http://ar-ar.facebook.com/SaberHegazi
– ينشر إنتاجه منذ عام 1983 في العديد من الجرائد والمجلاّت والمواقع العربيّة
- اذيعت قصائدة ولقاءتة في شبكة الاذاعة المصرية
- نشرت اعماله في معظم الدوريات الادبية في العالم العربي
– ترجمت بعض قصائده الي الانجليزية والفرنسية
– حصل علي العديد من الجوائز والاوسمه في الشعر والكتابة الادبية
-عمل العديد من اللقاءات وألاحاديث الصحفية ونشرت في الصحف والمواقع والمنتديات المتخصصة