قطيعة
كلما اقتربت بجانب القرية ، وأطلقت صفير القطار، يظهر أفراد يركضون ، يركبون بسرعة فائقة ، و إذا لم يكن بينهم شيخ كبير أو امرأة ، فإنني لا أتوقف ، و إنما أكتفي بإنقاص السرعة فقط ،يحكي لي أولئك المسافرون ما يحدث في قريتهم حتى حفظت كل قصصهم ، و كنت دائما أسأل عن جديدهم ، و أطمئن على شيوخهم ، و أستخبر عن معالم في ذلك التجمع الذي يبدو لي من بعيد حفنة من بنايات متراصة ، من بين تلك المعالم شخص كلما افتقد أحدهم شيئا ، فإنه دون تردد يذهب إليه لا يسأله عن المفقود ، و إنما يخاطبه بثقة :
ـ أريد أن ترجع لي حاجتي..
و بكل هدوء و دون محاولة للإنكار أو الكذب البغيض ، يخرج له الشيء المسروق ، و يعتذر في حالة إنقاص جزء منه ، و تمر الحادثة عادية كأن أمرا لافتا لم يقع في القرية ، فقد اعتادوا عليه ،يأخذ كل ما تقع عليه عيناه ،دون أن يسترعي فعله هذا انتباه الرأي العام لشأنه في أي جلسة ، فهو لم يرق إلى المستوى الذي يكون فيه موضوعا للنقاش في السهرات الليلية المتبادلة التي تقام يوميا بين العائلات و الأصحاب و التي يتناولون فيها الغث و السمين .
في القرية أيضا شاب يجتنبون الحديث عنه بدون سبب ، و إنما جرى الأمر اتفاقا ألا يمر اسمه في الجلسات الرسمية للترفيه و السمر ، لكنهم في النهار يلقبونه بالإمام ، دون أن يكون قد وضع جبهته يوما لله، و إنما نال هذا اللقب لأنهم لم يسمعوه يوما يكذب و لا يسرق ، و كان لا يخوض فيما يخوضون فيه من العبث الخبيث أو الإشارات الماجنة ، في حين يلقبون إمام القرية الذي هو أصلا من أسرة احتكرت الإمامة منذ العهد العثماني بالصعلوك ، لا لسبب ، و إنما لحادثة يتيمة وقعت له أثناء مراهقته مازال المخيال الجمعي يرفض أن يتناساها ،و المؤكد أنه و بكل أمانة سيوصلها إلى الأحفاد بأجوائها الفاضحة.
و في القرية مجانين يمرون دون اهتمام إلا واحدا منهم ، يقف يوميا على الساعة العاشرة صباحا حاملا معه ما يشبه الميكروفون ، ثم يشرع في بث أحداث مثيرة ، ليست من خياله ، و إنما هي أخبار السبعينيات من القرن الماضي و بالتدقيق أحداث الأهوال و النزاعات و الحرب الباردة ، متأثرا بوجاهة و هيبة الزعماء الذين قادوا تلك المرحلة ، يقرأها على مسامع الحاضرين ،ثم يرجع إلى منزله محاطا بأولاده الكبار الذين تعودوا على فعله هذا دون اعتراض ، فقد كبروا على هذا الواقع ، و تجاوزا مرحلة التقبل و الجدال ، و الأهم عندهم أنه لا يعرج إلى الأحداث الجديدة لا تلميحا و لا تصريحا ،كأنه يدرس ما يقوله ، أو كأنه جن بعقل .
لا أحد من القرية خرج منها منذ فترة طويلة ،و لا أحد دخلها حسب ما يتذكر الشيوخ الكبار ، لكن الذاكرة المرهقة مازالت تستحضر أن بعض العائلات لها علاقة ببعض الأجناس الأوروبية ، و ذلك حينما كانت المعارك تدور على القلاع الساحلية ،حيث أسلم بعض الأسرى ، و تزوجوا من نساء المنطقة ، حدث أيضا أيام الحرب العالمية الثانية عندما كانت ألمانيا تقصف المطارات في البلاد أن سقط قائد طائرة بمظلته ، فلم يرد السكان تسليمه نكالا في فرنسا ، فأخفوه ، و علموه لغتهم ، و أسلم ، فزوجوه ، و أنجب أولادا ما زالوا متشبثين بأرض أمهم إلى اليوم .
الوحيد الذي خرج من القرية هو شاب مثقف يميل إلى الإلحاد مع أنه حافظ لكتاب الله و يصلي في الصف الأول في المسجد ، كل كلامه مستفز ، اختلفوا فيه ما بين مؤيد و بين مخالف ، يستهزئ بالأفكار القديمة ، و يطرح أسئلة في منطقة الممنوع للحقل العقلي لمجموعته ، يفكر بصراخ ، خرج يوما من منزله ، حفر بئرا،وضع كومة التراب فوق قطعة من القماش ،ثم جذبها إليه ، فدفن نفسه ،دون الحاجة إلى مساعدة أحد من القرية لأنه لا يحب أن يتفضل الناس عليه (العرب) كما يحلو له أن يسميه بنبرة من الشتيمة و الاحتقار .
في المقهى ، يتشدق مثقفهم قائلا :
ـ أكبر كذبة في التاريخ هي الجامعة العربية ، لا أقصد من حيث السياسة ، لكن من حيث التركيبة ،هي وهم عرقي ، ففي كل دولة عربية أكثريات عرقية ..
كلامه هذا هو سرقة فاضحة لأفكار ذلك المنتحر الذي لم يجد ندا له يستطيع أن يتبارز معه في صراع الكبار ، من أقواله التي أثارت عليه كثيرا من الحنق صدعه بأن القضية الفلسطينية ليست هي المركزية ، و أن أيادي خفية تسعى لإطفائها على الساحة بين الفينة و الأخرى ، معركتنا المركزية و الأصيلة هي ضد الجهل ، فلسطين غاية نصل إليها عندما ننقذ أنفسنا.. عندما كان يحتدم النقاش ، ينهيه بهذه العبارة :
ـ دعوها الآن و اهتموا بأنفسكم ..
في القرية أيضا متقاعد من شركة البريد ،مطّلع على جميع الأسرار منذ أن كان الهاتف عن طريق المحول المركزي ، حيث مكّنه ذلك من معرفة كل الأسرار ، فكان يسرد يوميا حكايات يدعي أنها من خارج القرية ، و لكي يقنع السامعين بذلك ، يدخل عليها بعض التعديلات في الأسماء و الزيادات في الأحداث ، كما كان يمزج بعض الأحداث في بعض ، و يرتجل نهايات من عنده كما يشتهيها ، أو يعير نهاية قصة لقصة أخرى ، لم يكونوا يتحسسون منه،لأنهم أخذوا منه عهدا ضمنيا أن لا يكشف الأسماء و أن لا يشي بما من شأنه أن يشير إلى أبطال قصصه .
و مع ذلك فالقرية ليست معزولة عن العالم الخارجي ،فهناك سوق أسبوعية ،يشترك فيها أجانب عن المنطقة مع أبنائها ، و هناك تجار يفدون عليها يوميا بسياراتهم و شاحناتهم ، يبيعون الفواكه الموسمية و الخضر ، و سلعا أخرى ، و الأهم من ذلك كله هو هذا السيرك الذي يقام كل سنة و الذي يحضره كل السكان سواء من يدفع ثمن التذكرة أو من لا يملك حقها ،و في فترة نصب الخيمة الكبرى التي تدوم بضعة أيام ،تختلط الغجريات بشبان القرية ، و تعقدن علاقات وهمية غرضها الاحتيال و الابتزاز ،يغامرن على حبال العاطفة ، كما يفعل شبان الغجر على الحبال التي لا ترحم الأخطاء لولا الشباك الواقي المتدلي في الأسفل.
هؤلاء السكان الذين يقتسمون نفس التراب و الهواء ، و الذين تتقاطع أجسامهم بالقرابة و المصاهرة لم يجتمعوا يوما ما من أجل دراسة أية مشكلة تعترضهم ، ربما إشكالهم يكمن في التصنيف ، فقد يختلفون في وضع أي مسألة في خانة المشكلات التي يجب التجمع من أجل دراستها ، لا يتذكرون إلا مرة واحدة بدؤوا يجتمعون يوميا بعد صلاة العشاء ، و ذلك من أجل الهوائي المقعر الكبير الذي يزود القرية بالقنوات الأجنبية ، شرعوا يتجمهرون يوميا ،مرة من أجل مناقشة الموضوع ،و مرات عديدة لجمع الأموال ، وبعدها من أجل تتبع أخبار هذا الجهاز ابتداء من شرائه في فرنسا إلى حمله على الباخرة حتى وصوله ، قصص مطولة ، و لحمه حميمية إلى غاية و تركيبه و توزيع الكوابل على المشتركين، و تتبع أولئك اللصوص الذين يتحايلون في مشاركة المنخرطين في المشاهدة بوسائل ذكية و غير شرعية ، يكفيهم أخوة أنهم يجتمعون .
لا وجود للأنثى في الشوارع ، فقد أحكمت عليها أبواب المنازل ، و لكنها هي المسيطرة داخل مملكتها ، حتى تعتقد أنها هي من تسجن نفسها لغرض تخفيه ، ربما يكون بعضه هو احتفاظ كل امرأة بزوجها بعيدا عن بقية الوجوه . تخرج النساء فقط في الأعراس فقط بدون حجاب تقليدي (لحاف) ،بل بكل زينتهن و تجبن الشوارع في جو يميل إلى الظلام يغنين و يحملن معهن الشموع ، و الويل للرجل الذي يلتقين به في الشوارع ، إنه سيموت خجلا ، و سيلتصق بوجهه في الجدار ، لا أرض تقله و لا سماء تظله..
يحدث أيضا أثناء الختان أن يخرجن حاملات سينية فيها القطعة من المنزوعة من المختون مدفونة فوق التراب ، يحدث ذلك عادة في الظهيرة ، ليُعدن دفنها في مكان معين وسط طقوس من الغناء و البهجة المقززة .و فيما عدا هذه المظاهر فكأن المرأة غير موجودة البتة .
لكنهم اليوم يجتمعون لأمر يبدو عظيما ، سيمر القطار وسط القرية، لأن المنطقة التي كنت أمر عليها أنجزوا فيها سدا يجمعون فيه المياه المنحدرة من الجبال المجاورة ، و وجب شق سكة حديدية باتجاههم تماما، ها هم الآن كتلة لمواجهة هذا المشروع ، يحمل شيخ القرية (كبير الزقاق) ورقتين فيها قوائم السكان و إمضاءاتهم ، لم ورقتين ؟ لسبب بسيط هو أنهم انقسموا إلى فريقين ، فريق على يمين السكة الحديدية و فريق على اليسار ، الألقاب مختلطة على الأوراق حسب الأمزجة و المصالح .
أصبح القطار يمر مرات كثيرة في اليوم مما تسبب في خلط أوراق اللص ، ومنع بث الأخبار في موعدها ، و قضى على التشدق في المقهى بأي كلام ، بل مما اضطرهم إلى إنشاء مقهى آخر ، و عليه فقد ظهرت قريتان ، قرية نسبت إلى اسم المنتحر و قرية سميت باسم الصعلوك ، كلتا التسميتين لاقت استحسان الجميع بكل ارتياح ،فلا يشترط في التسميات أن تكون جميلة أو تفاؤلية ، و في كل من القسمة و التسمية لم يستشر النساء لأن القطار لن يدخل البيوت التي هي مملكتهن .
كلما اقتربت بجانب القرية ، وأطلقت صفير القطار، يظهر أفراد يركضون ، يركبون بسرعة فائقة ، و إذا لم يكن بينهم شيخ كبير أو امرأة ، فإنني لا أتوقف ، و إنما أكتفي بإنقاص السرعة فقط ،يحكي لي أولئك المسافرون ما يحدث في قريتهم حتى حفظت كل قصصهم ، و كنت دائما أسأل عن جديدهم ، و أطمئن على شيوخهم ، و أستخبر عن معالم في ذلك التجمع الذي يبدو لي من بعيد حفنة من بنايات متراصة ، من بين تلك المعالم شخص كلما افتقد أحدهم شيئا ، فإنه دون تردد يذهب إليه لا يسأله عن المفقود ، و إنما يخاطبه بثقة :
ـ أريد أن ترجع لي حاجتي..
و بكل هدوء و دون محاولة للإنكار أو الكذب البغيض ، يخرج له الشيء المسروق ، و يعتذر في حالة إنقاص جزء منه ، و تمر الحادثة عادية كأن أمرا لافتا لم يقع في القرية ، فقد اعتادوا عليه ،يأخذ كل ما تقع عليه عيناه ،دون أن يسترعي فعله هذا انتباه الرأي العام لشأنه في أي جلسة ، فهو لم يرق إلى المستوى الذي يكون فيه موضوعا للنقاش في السهرات الليلية المتبادلة التي تقام يوميا بين العائلات و الأصحاب و التي يتناولون فيها الغث و السمين .
في القرية أيضا شاب يجتنبون الحديث عنه بدون سبب ، و إنما جرى الأمر اتفاقا ألا يمر اسمه في الجلسات الرسمية للترفيه و السمر ، لكنهم في النهار يلقبونه بالإمام ، دون أن يكون قد وضع جبهته يوما لله، و إنما نال هذا اللقب لأنهم لم يسمعوه يوما يكذب و لا يسرق ، و كان لا يخوض فيما يخوضون فيه من العبث الخبيث أو الإشارات الماجنة ، في حين يلقبون إمام القرية الذي هو أصلا من أسرة احتكرت الإمامة منذ العهد العثماني بالصعلوك ، لا لسبب ، و إنما لحادثة يتيمة وقعت له أثناء مراهقته مازال المخيال الجمعي يرفض أن يتناساها ،و المؤكد أنه و بكل أمانة سيوصلها إلى الأحفاد بأجوائها الفاضحة.
و في القرية مجانين يمرون دون اهتمام إلا واحدا منهم ، يقف يوميا على الساعة العاشرة صباحا حاملا معه ما يشبه الميكروفون ، ثم يشرع في بث أحداث مثيرة ، ليست من خياله ، و إنما هي أخبار السبعينيات من القرن الماضي و بالتدقيق أحداث الأهوال و النزاعات و الحرب الباردة ، متأثرا بوجاهة و هيبة الزعماء الذين قادوا تلك المرحلة ، يقرأها على مسامع الحاضرين ،ثم يرجع إلى منزله محاطا بأولاده الكبار الذين تعودوا على فعله هذا دون اعتراض ، فقد كبروا على هذا الواقع ، و تجاوزا مرحلة التقبل و الجدال ، و الأهم عندهم أنه لا يعرج إلى الأحداث الجديدة لا تلميحا و لا تصريحا ،كأنه يدرس ما يقوله ، أو كأنه جن بعقل .
لا أحد من القرية خرج منها منذ فترة طويلة ،و لا أحد دخلها حسب ما يتذكر الشيوخ الكبار ، لكن الذاكرة المرهقة مازالت تستحضر أن بعض العائلات لها علاقة ببعض الأجناس الأوروبية ، و ذلك حينما كانت المعارك تدور على القلاع الساحلية ،حيث أسلم بعض الأسرى ، و تزوجوا من نساء المنطقة ، حدث أيضا أيام الحرب العالمية الثانية عندما كانت ألمانيا تقصف المطارات في البلاد أن سقط قائد طائرة بمظلته ، فلم يرد السكان تسليمه نكالا في فرنسا ، فأخفوه ، و علموه لغتهم ، و أسلم ، فزوجوه ، و أنجب أولادا ما زالوا متشبثين بأرض أمهم إلى اليوم .
الوحيد الذي خرج من القرية هو شاب مثقف يميل إلى الإلحاد مع أنه حافظ لكتاب الله و يصلي في الصف الأول في المسجد ، كل كلامه مستفز ، اختلفوا فيه ما بين مؤيد و بين مخالف ، يستهزئ بالأفكار القديمة ، و يطرح أسئلة في منطقة الممنوع للحقل العقلي لمجموعته ، يفكر بصراخ ، خرج يوما من منزله ، حفر بئرا،وضع كومة التراب فوق قطعة من القماش ،ثم جذبها إليه ، فدفن نفسه ،دون الحاجة إلى مساعدة أحد من القرية لأنه لا يحب أن يتفضل الناس عليه (العرب) كما يحلو له أن يسميه بنبرة من الشتيمة و الاحتقار .
في المقهى ، يتشدق مثقفهم قائلا :
قد يعجبك ايضا
كلامه هذا هو سرقة فاضحة لأفكار ذلك المنتحر الذي لم يجد ندا له يستطيع أن يتبارز معه في صراع الكبار ، من أقواله التي أثارت عليه كثيرا من الحنق صدعه بأن القضية الفلسطينية ليست هي المركزية ، و أن أيادي خفية تسعى لإطفائها على الساحة بين الفينة و الأخرى ، معركتنا المركزية و الأصيلة هي ضد الجهل ، فلسطين غاية نصل إليها عندما ننقذ أنفسنا.. عندما كان يحتدم النقاش ، ينهيه بهذه العبارة :
ـ دعوها الآن و اهتموا بأنفسكم ..
في القرية أيضا متقاعد من شركة البريد ،مطّلع على جميع الأسرار منذ أن كان الهاتف عن طريق المحول المركزي ، حيث مكّنه ذلك من معرفة كل الأسرار ، فكان يسرد يوميا حكايات يدعي أنها من خارج القرية ، و لكي يقنع السامعين بذلك ، يدخل عليها بعض التعديلات في الأسماء و الزيادات في الأحداث ، كما كان يمزج بعض الأحداث في بعض ، و يرتجل نهايات من عنده كما يشتهيها ، أو يعير نهاية قصة لقصة أخرى ، لم يكونوا يتحسسون منه،لأنهم أخذوا منه عهدا ضمنيا أن لا يكشف الأسماء و أن لا يشي بما من شأنه أن يشير إلى أبطال قصصه .
و مع ذلك فالقرية ليست معزولة عن العالم الخارجي ،فهناك سوق أسبوعية ،يشترك فيها أجانب عن المنطقة مع أبنائها ، و هناك تجار يفدون عليها يوميا بسياراتهم و شاحناتهم ، يبيعون الفواكه الموسمية و الخضر ، و سلعا أخرى ، و الأهم من ذلك كله هو هذا السيرك الذي يقام كل سنة و الذي يحضره كل السكان سواء من يدفع ثمن التذكرة أو من لا يملك حقها ،و في فترة نصب الخيمة الكبرى التي تدوم بضعة أيام ،تختلط الغجريات بشبان القرية ، و تعقدن علاقات وهمية غرضها الاحتيال و الابتزاز ،يغامرن على حبال العاطفة ، كما يفعل شبان الغجر على الحبال التي لا ترحم الأخطاء لولا الشباك الواقي المتدلي في الأسفل.
هؤلاء السكان الذين يقتسمون نفس التراب و الهواء ، و الذين تتقاطع أجسامهم بالقرابة و المصاهرة لم يجتمعوا يوما ما من أجل دراسة أية مشكلة تعترضهم ، ربما إشكالهم يكمن في التصنيف ، فقد يختلفون في وضع أي مسألة في خانة المشكلات التي يجب التجمع من أجل دراستها ، لا يتذكرون إلا مرة واحدة بدؤوا يجتمعون يوميا بعد صلاة العشاء ، و ذلك من أجل الهوائي المقعر الكبير الذي يزود القرية بالقنوات الأجنبية ، شرعوا يتجمهرون يوميا ،مرة من أجل مناقشة الموضوع ،و مرات عديدة لجمع الأموال ، وبعدها من أجل تتبع أخبار هذا الجهاز ابتداء من شرائه في فرنسا إلى حمله على الباخرة حتى وصوله ، قصص مطولة ، و لحمه حميمية إلى غاية و تركيبه و توزيع الكوابل على المشتركين، و تتبع أولئك اللصوص الذين يتحايلون في مشاركة المنخرطين في المشاهدة بوسائل ذكية و غير شرعية ، يكفيهم أخوة أنهم يجتمعون .
لا وجود للأنثى في الشوارع ، فقد أحكمت عليها أبواب المنازل ، و لكنها هي المسيطرة داخل مملكتها ، حتى تعتقد أنها هي من تسجن نفسها لغرض تخفيه ، ربما يكون بعضه هو احتفاظ كل امرأة بزوجها بعيدا عن بقية الوجوه . تخرج النساء فقط في الأعراس فقط بدون حجاب تقليدي (لحاف) ،بل بكل زينتهن و تجبن الشوارع في جو يميل إلى الظلام يغنين و يحملن معهن الشموع ، و الويل للرجل الذي يلتقين به في الشوارع ، إنه سيموت خجلا ، و سيلتصق بوجهه في الجدار ، لا أرض تقله و لا سماء تظله..
يحدث أيضا أثناء الختان أن يخرجن حاملات سينية فيها القطعة من المنزوعة من المختون مدفونة فوق التراب ، يحدث ذلك عادة في الظهيرة ، ليُعدن دفنها في مكان معين وسط طقوس من الغناء و البهجة المقززة .و فيما عدا هذه المظاهر فكأن المرأة غير موجودة البتة .
لكنهم اليوم يجتمعون لأمر يبدو عظيما ، سيمر القطار وسط القرية، لأن المنطقة التي كنت أمر عليها أنجزوا فيها سدا يجمعون فيه المياه المنحدرة من الجبال المجاورة ، و وجب شق سكة حديدية باتجاههم تماما، ها هم الآن كتلة لمواجهة هذا المشروع ، يحمل شيخ القرية (كبير الزقاق) ورقتين فيها قوائم السكان و إمضاءاتهم ، لم ورقتين ؟ لسبب بسيط هو أنهم انقسموا إلى فريقين ، فريق على يمين السكة الحديدية و فريق على اليسار ، الألقاب مختلطة على الأوراق حسب الأمزجة و المصالح .
أصبح القطار يمر مرات كثيرة في اليوم مما تسبب في خلط أوراق اللص ، ومنع بث الأخبار في موعدها ، و قضى على التشدق في المقهى بأي كلام ، بل مما اضطرهم إلى إنشاء مقهى آخر ، و عليه فقد ظهرت قريتان ، قرية نسبت إلى اسم المنتحر و قرية سميت باسم الصعلوك ، كلتا التسميتين لاقت استحسان الجميع بكل ارتياح ،فلا يشترط في التسميات أن تكون جميلة أو تفاؤلية ، و في كل من القسمة و التسمية لم يستشر النساء لأن القطار لن يدخل البيوت التي هي مملكتهن .
عبد القادر صيد
