رجل مشرقى ..
على المرء أن يحب نفسه قليلاً لكي يحب الأخرين. أما أنا فليس لدي من أحبه أو أكرهه."
الطاهر بن جلون
-1-
كان لوحدة يلف ويدور ويدور .. وبعنف حول الصاري الكبير , والمنصوب عاليا خفاقا بشرق النيل , وبالاتجاة المؤازى للحرازة أم قد والغابة العايدكية والمغاربة جنوب , وفى تلك الجمعة اليتيمة الفريدة والاخيرة من شهر الـ " قصير" حسب التقويم الشعبي السناري لجزيرة الفونج , ووسط الحلقة الكبرى والمشهودة لمولد الخليفة الاكبر " ود بلة " , بالضبط وبذات الوتيرة من الطقس الاحتفالى الحاشد والذى يقام بالجمعة الاخيرة الجامعة , لكل الحلال بحر وضهر من شهر" الوحيد " , وبذات التقويم الشعبي القديم والان وبكل الهيلمان والسلطة وزيوع المكانة العالية للفقيرلله " يوسف دور " , الدرويش المتبتل دوما وأبدا , والذى أظهر نجابة منقطعة النظير وهيبة ووقار ونبوغا مشهودا وكبيرا , وهو فى الطلب وهو فى ساحات الذكر الاكبر بالمقام الكبير للعارف بالله الشيخ " حمد النيل " وخليفتة صاحب الوقتى والكائن بغرب النيل , وبحضرة صاحب الحضرة والانوار الشعشعانية والقطب الصمدانى الاصل والمعمعم عن آخرة باللالئ والدرر الكونية المتوارثة , والمتوشح جمالا بالنفحات النورانية وهالات العلوم التوحيدية الكبرى , والانجم الزهرية البعيدة والغير منظورة ,أو مطروقة الا للراسخين فى العلوم بالقراءة فى الليحان والرياضة مع الحيران , كان لحظتها يهتز مكبا على وجهة حينا , ثم يرقص ويترنح حينا آخر , ثم يتارجح .. ويترنح وتأخذة الصحوة الكبرى.. وهو عبدا منتشيا أبديا وعلى تلك الشاكلة أو الهيئة كان صوتة المتقطع المتهدج , قد بدأ يخبؤ .. ثم يخبؤ , ثم يتقطع تماما رويدا .. فرويدا.. فرويدا .. .
أما وفى أخرى فقد بداء للكل وفى تلك الجلسة بالذات بكامل هيئتة وبهائية وصفائة , وحضورة اليقينى المنقطع النظير يرغى ويزبد , بل ويهتز بشدة ثم يسكت هكذا ويطبق تماما وفجاة عن الكلام المباح , وكان هذا على الصحيح فى الليلة الخامسة بعد المائة الاولى , من دخولة وخروجة غانما من الخلوة وسفرة فى بواكير تلك الضحوة للريف الاقصى الشمالى لامدرمان الكبري , تجاءة نواحى ضهرة " أم مرحى " وأتقاءا لنوازل وكروب واهوال مجاعة سنة ستة الشهيرة , والتى قضت على الاخضرواليابس وحتى نواحى بحر الصغيروناب وقوز المطرق مرورا وبجرف الانغرياب والازيرقاب العريض والوسيع , والذى جمع قبلها ناس السودان الاوسط كافة والعربان شرق وغرب , وأيام مجاعة " أم لحم " الكبرى نفسها الاولى وفى سابق العصر والاوان وأيام السلطنة الزرقاء , وحتى وقبل قيام مملكة الفونج والعبدلاب كما تروى بذلك جدتى " بتول " عن جدتها الاولى " خزنة " , وعندها فقط أفتاء شيخة ذو الانوار السطوانية كافة " ودقسوم " , بانها حتما قطعا ربما كانت للضرورة وما جرئ بة العرف والمصلحة العامة ومقتضيات الحال , ولا تثريب أبدا علية أو حرج , ألا وأذا ما أخذ هو بالشدة وبالراى المخالف والمتـاخر زمانا , والمتواتر مجازا , وهو الغير مستقرعلية الان لا قياسا ولا أجتهادا لا فى المهدية ولا قبلها ولا بعدها , حتى هو "سلوكا " بنفسة كان يدعى يقينا بأن جدة لامة , " ود أللبنى " كان أمير أمراء فى المهدية , وكانت لة هيبة ووقار ومكانة قل أن يتبواها أحد فى مجلس المهدى الامام , أوعند حضرة خليفتة " التعايشي " الحاكم المطلق بأمرة بعد ذلك , وعندما قال لة وبكل صدق وشوق وفى حضرت أخية "جراب الرأئ " يعقوب ,وسيف الثورة البتار " عثمان جانوا " حاكم دارفور وكردفان الاول , وقبل توشكى وقبل وصول الدكيم نفسة لدنقلا العرضى بسلطاتة الكبرى والطاغية والمتنفذة وبقليل :
ـ واللة يا ود حواء وأدم ...لوما حمرتك دى الاباها المهدى ..كنت دخلتك جوا بطنى دي .." .
-2-
وهنا أنقطع وصل الحديث ولا مجال حتى لمراجعتة بعدها بتاتا , بل أكد بان جميع الاسرار قد قبضت وأنة تلقاها من جدة لابية والذى تلقأها بدورة من شيخوة "اللقانيين " بمصر المؤمنة , وبعدها ذهب بنا بعيدا .. بعيدا فى سردة المشوق , ونحن كلنا آذان صاغية لما كان وما سيكون ,
, وأن صوتة المتهدج كان ينطق بالاحرى بالصدق , ولا شىء غيرة وتاكد لنا بان علومة كان يستغيها , على الارجح من علوم لدنية أخرى .. وبطريقة أوما .
, ثم بدأ مرة أخرى يرغى ويزبد ويتشنج , وخصوصا عندما يفاخر بعد ذلك بمناقب شيخة " ود حسونة " المغربى , وهو المغرم باحوالة وصفاتة وأفعالة كلها , ليقول لنا وهو وبذات نفسة وقدرة وعندما مر بجيشة اللجب من الفقراء وفى مقدمتة الحرس المكادية , تمنع شيخنا المتبتل أبدا تماما عن مقابلتة وهو كبيرهم والذى أخذ البرنجية عن جدارة وأقتدار , وقال لحوارأ لية : ..
- ـ لوسالك عنى قل لة خرج باكرا .. ومتخفيا بالكامل وفى مصلحة لة بعيدا من الخلوة .., بل كان من عاداتة المعروفة والشهيرة أنة لا يحب القيام أو مقابلة العظماء والجبابرة أطلاقا , لا أولاد "عجيب " ملوك الحلفاية ولا ملوك جعل كافة , بالضبط كشيخة الاول " الخواص " فى مصر المحروسة , كان لا يقوم أو يقابل حكام زمانة من الباشوات ولا السناجك والوجاقين , وقال لة بصريح العبارة :
ـ " أنا ما عندى قدرة على مقابلة ناس الدنيا ..؟ااا" , ورغما عن ذلك وضجيج الناس بين مصدق ومكذب قام الشيخ " ود حسونة " وبأبويتة وسماحتة وتقديرا لمجاهداتة الكبرى والتى فأقت الحد , بأهداءة بردة كبردة " الاجهورى " الشهيرة والمعروفة أعلا لمجاهداتة الكبرى مع النفس , وقال وقتها لحيرانة الخلصاء وبصريح العبارة وهو يجتاز " شندى" تجاءة أحبابة ألانقرياب :
ـ أتركوة دا أخوى " بسبار" العلوم .. ماسك الطريق مالانوا .. " , بل وبعدها قال :
ـ وتأكدت لنا بعد ذلك أيضا صلاتة الوثقى وأتحادة الكبير مع صفية الشيخ " عبد الرازق " لزم وفى مجملها , والمتواتر ما ذكروة أهل العلم والرواة الثقاة , بأنة وفى يوم خروجة مودعا مجلسة العامر , قال مخاطرا نفسة وهو يرى كل هذة الدنيا والجاة والعز المقيم والسلطان الكبير :
ـ حسبى اللة .. سيد المزار تاكلة النار " فكاشفة وأرسل الية فى الحين والحال واللحظة قائلا :
ـ قول لية يأريتا نار الدنيا .. ما نار الاخرة ".. , فكان بالفعل كما قال أذا أنعكس علية فيما بعد وذات يوم شرار بندقة , وهو يحاول أن يقتل تمساحا , كان يعيس فسادا كبيرا فى جزائرة العديدة , فكان سببا فى موتة , فسبحان الله الذى لا أنقضاء لملكة .. .
, وفى هذا قال متأثرا
ـ وبذلك .. أنتهت واللة .. وبالفعل دنيا عريضة
وكانوا كلهم أقطب علوم وأهل علم وتنوير وأجتمعوا على فقة وعلم وتقريبا فى زمن وأحد سمح بالحيل ..
الشيخ أدريس والهميم ود عبد الصادق وأبوقرون وصغيرون وعلى النيل ودفع اللة وأبودليق وودشوشاى فى السافل , ويعقوب وموسى فى الصعيد وملمين باشياء كثيرة وأسرار لاتحصى ولا تعد ..
ونشروا الدين بعد سقوط سوبا واصلوة بالخوارق الالهية والتى كانت تجرى على أيديهم كرامات مزهلة . فى ارض النوبة سحرة موسى وفرعون الاوائل كما بقولون والله أعلم ,
وذلك كلة كان بزمن ليس ببعيد من نعية , وحضورة لرحيل الشيخ القطب الاوحد"عبد الرازق " نفسة فهو سبيقة للحاق بالرفيق الاعلى , وكما يقولون وبينما كان الشيخ "ود حسونة " ذات يوما متحكرا , مجلسة بالشرق فى بناحية حفير أبو قنيطير " الشهيرة .. راي زحمة بالمشرع والبر الاحمر , قبالة بلاد البطاحين فسال حوارة " عبد السلام" جدى لامى والعهدة لحبوبتى "ريا بنت عمر" الحمدية البادرابية " قائلا ..
- ها ناس اللمة شنو البهناك ؟؟ " قالوا لية وربما حوارة " الكوفى " واللة أعلم أوحيرانة الدناقلة أحمد تود أو موسى فريد أو غيرهم وهم كثر ..
- دى جنازة شايلنها فى مركب لدفنها بالشرق " فرد عليهم ولم يقم من مجلسة وهو يترحم وينعى الجميع .. ..
ـ "الدوام للة يا ناس .. أخوى " عبد الرازق " .. أنتقل .
-3-
أما مشغولياتة ومجاهداتة فقد فاقت الحد والوصف , وهو يتدبر أمورطلابة وجزائرة ومالة الذى لايحصى ولايعد , وكان قبلها قد طاف وساح وفى طريقة للحج , بكل نواحى الدنيا المعروفة أنذاك , ولمدة أثنتى عشرعام تقريبا فيقولون جازمين بالطبع بمرورة بمصر ودمشق , أما القدس فيجتهدون ويرجحون زيارتها , أذ لم يكن هناك مانع شديد وقوى تلك الايام من حرب وبلاء وخلافة , كما أن المتواتر أن المحمل الدارفورى كان سباقا فى زيارتها واللة أعلم , بل وكانت لة هيبة ومكانة عند سلطان " أسلامبول " نفسة
ويقال بأن لة أعتقاد كبيرفى صلاحة وفلاحة , لدرجة أنة عرض علية القرب منة وفى كريمتة الوحيدة ومعها دنيا عريضة , فرفض كل ذلك على أستحياء :
ـ " والكثير ..والكثير .. اة .. " وتلك الايام نداولها.. " و كانت أيام .. ونعم الايام .. ولو خيرت لكنت عبدا بينهم .. وكانوا رجال ذوى صولة وجولة .. وكل الناس تقول لاحول .. .
ثم أخذ بعدها يرغى ويزبد , وليقول مواصلا لحديثة بعد أن أضجع على جانبة الايمن , بعض من الوقت الا قليلا , حيث جاد هذة المرة بحديث آخر مختلف , عن ما كان وما سيكون قال " فى البدء والاصل لم تكن هناك خرطوم .. ولا يحزنون بل كان هناك النيل والضريح الجليل ولا شىء قبلة .. وكان ذلك بزمن ليس ببعيد من " فقد " درمان " العنجاوى نفسة .. ,
رحلة أمة الطويلة والمكوكية للبحث عنة .. بحثت عنة كما يقولون فى كل مكان بالايام والشهوروالسنين الطوال , سالت أهل الزرايب والجلابة والنخاسة النازلين الصعيد والطالعين , سالت الزهاد والعباد أهل الظاهر والباطن :
_ يا شيخنا ولدى ساقوة شلك ؟ " تريدة ان يرد عليها ويقول ليها ..ـ
_ ولدك ما شايفة هناك .. ما بخرمج فى السيل والطين مع الوليدات ديك ..Jأمشى سوقى منهم .. الشفقة تطير " ولكنة حتى بهذة الفرية هل أضنى عليها
ولم يقلها لها بصريح العبارة ؟ هل أخفاءها منها .. كان رحمة بها أو نكاية عليها .. أم كانت عديل راحت فيها .. وهكذا يتركها وهو يقول لها مواسيا :
ـ يا " أمدرمان " عديلة كمان ..
وقولى تانى عديلة .. وأنشاء اللة اليوم الابيض .. لا يفوتك أبدا ..أبدا ...
" وهذا الاخير لا وجود حقيقة لة الا فى مخيلتها , وهى الملهوفة دائما وابدا , وهى مع ذلك كلة لاتكف عن السؤال عنة , على طول الضفاف سالت عنة النواتية والسماكة والمراكب الغادية والرايحة , وأشارة النواتية لها دائما وهى واقفة كالفنار نهارا أوليلا " هذة أمدرمان " , حتى عندما حدثت وفاتها بعد مجاعة " أم حنيضيل " كما يتقولون أو" أم لحم " أصبحت أسم على المدينة كلها بعد ذلك , ثم سكت فجاةعن الكلام المباح بل وفى هذة الليلة الاخيرة , من رمضان ذاك العام وسياحتة الغيبية الطويلة بنا , أنتظرناة ونحن المتعشمين ليتابع لنا أقاصيصة الغرائيبية والعجيبة والتى أزهلت معنا , هداءة النيل الخالد نفسة ولكنة ولاول مرة يخلف الوعد مجازا , ويذهب فى رحلة سياحتة الابدية أو خلوة أخري داخل بحر ذاتيتة العميقة , كدرويش متبتل منقطع فى عزلة ذاك العارف باللة والقادم من أعماق التاريخ السحيق , أو ذاك القادم من أزمنة حفر البحر نفسها
تلك الظهيرة وبعد أن جال بنظرة , بعيدا بعيدا قال وهذا ربما أخر عهدنا بة على الاطلاق , وهو متحفزا " كان الفيضان ذاك العام شيئا مخيفا ,
عند نقطة التقاء البحرين أذا غمر موجة العالى كالطود كل الجروف , وسواقى القيف الامامية , أما الجزرفكلها كانت بأستماتة وبمعجزة تقاوم وبلا جدوى ..
. التيارات الجارفة " والكونيات " أى الشيم العاتية المخيفة تماما ..
-4-
يومها كان ثلاثتهم يتسربون من مدرسة " سوميت " ليرموا بشراكهم , يتسلون بصيد الاسماك تحت أرصفة الضريح العالية , تظللهم أشجار اللبخ الهندى الضخمة المرتصة بمحازات مدرسة البوليس , ورصيفها المنيع العتيد كان يقاوم فى شراسة وبسالة الموج العالى , والذى يرسخ الاحساس بالندية والصمود , وأمام ثورة وغدر" بحر النيل " نفسة والذى أغرق بجبروتة وعلى مرمى البصر , كل شيئى يمكن أن يتشبث بة غريق , بل كان منظر " سلوكا " حوار الضريح هذة المرة , مهتاجا وعلى غير عادتة ,يعطى انطباعا فعليلا على مدى خطورة فيضان هذا العام, والذى فاق كل التوقعات بل كان وفى هياجة وكانما فى عراك ليس مع فرد او افراد بعينهم , بل كانة يتعارك مع دنيا باكملها وهذا هو حالة , فهو فى خصام دائم ومنقطع النظير , ومع كل ما هو بدعة حضارية من خرطوم " الباشبزك " بقبابهم التى لاتغنى أوتسمن من جوع , بل ولم يرى الخرطوم بعينية , ولم يجتاز ذاك الكبرى الحديدى العتيد , ولم يطأء ثراها أبدا , وعلى النقيض من ذلك كان حبة وعشقة " للبقعة " وحدها لا تحدة حدود , وعلى الرغم من أنة لم يولد بها .. ,
أو يترعرع بين أحياءها العريقة ,كاى وأحد من أبناءها , ولكن حبة لها جارف ويفوق كل تصور , حتى ان جل حياتة كانت بها , ولقدسية أضرحتها ومزاراتها .. , كان يسير بها سائحا متجولا , من أقصاها الى أقصاها ,حافى القدمين ومطلقا لشعرراسة العنان , فى جدل غليظة مغبرة اللون , وفى ذهد وورع النساك والعباد ,
شديدين ولم تطاء قدماة لاخرطوم التركية السابقة ولا الاحقة ,
وأعتقادة الجازم ينصب وما زال على أن كل مصيبة او نكبة حلت بالبلاد
, أوالعباد كان سببها تلك " الخرطوم " كرش الفيل , وحدها بلد "
الجربندية الخطرية الظلمة , وهو فى قمة هياجة يناوشة " رضوان " قالوا ..
" ـ يا سلوكا بحر أزرق طلع الرصيف وخش الخرطوم .. يعنى أمدرمان بيوت الطين دى والقش .. حترقد السنة دى قرض .. لياتى صوتة مولولا منفعلا وهو كتلة من الهياج والاشتعال , يطلق تحزيراتة ألمروعة والتى يصيب رشاشها القريبين والبعيدين ..
ـ شوف يا ولد يا "رضوان " أعدل ...كلامك فيضان شنوا .. أمدرمان دى أنتوا واللة جاهلنها ساكت .. حرم هى الساس والراس .. بقعة سيدى" المهدى " الامام .. محروسة بايأت اللة وبأهل اللة يا ولدى دى بلد صلاح وفلاح .. وأصلوا ما بتنضام .. أبدا ..أبدا.. ليضيف بعدها وفى تؤكيد شديد ..
ـ وحتى ولو الفيضان طلع الخرطوم ما يطلعها .. ولكن الحدود هى الحدود .. وزمان الفقراء شن قالوا .. فى خرطومكم دى .. ما قالوا عديل لولا مشايخها العارفين والواصلين " ودفايد"و" أبوجنزير " خصيم المدير.. بذات نفسة لكانت يا حرقة ياغرقة .. .. "
بالطبع كان يواصل فى تعداد مناقب البقعة ,
وأفضالها على البشر وكل السودان ويترنم " أنا امدرمان .. أنا أمدرمان .
. أنا السودان " وهو ومع كل تعصبة وأنحيازة الى صفها , عن سائر البلاد والامصار فان أهل الفريق لا يعرفون بالضبط , من أين حتى هوى "
" سلوكا " نفسة اليهم ؟؟اا أو الى أين مقصدة ؟؟اا , ولكن حاجة
" سعاد بنت الفهيم " أدخلت البارحة نفسها والجميع , فى مجادلة عقيمة مع شيخ الطمبرة " ودالبحير" , عندما أدعت بأنة جاء يقينا بصحبة نفر من السماكة أولاد "طيفور " من جهة الصعيد ..
المختلفة , ممتهنا بمركبة الواهنة صيد الاسماك , وغزل الشباك
والحج لبيت اللة الحرام , وزيارة قبر المصطفى علية أفضل الصلاة والتسليم , ومكث بالضريح بعد ذلك مجاورا وخادما لة سنينا عددا , حتى بليت مركبة وتكسرت وتقطعت بة بعدها السبل , فأمتهن مع وهن عظمة زراعة الجروف وحراسة الضريح ليلا , أما بعض من عاصروة من أولاد فريق "العباسية "وفريق "
ريد " , فيقولون بأن الدرويش " سلوكا "المعروف بحكاوية التى لا تنضب والمثيرة للجدل والاخيلة , ربما كان من هيئتة الجادة واحدا من مسرحى الاورط العسكرية المصرية القديمة , بينما يرجح بعضهم بانة وبغموضة , ظهر فجأة وكنبات محلى قديم قادم من أعماق , جزور وجهاء الشرق الكبير أبان فترة بناء كبرى النيل الابيض وفى الحقيقة , وعن مقدمة كثرة الاقاويل كما أنة وبزهدة الذى عرف بة , ووقارة وبلونة الناصع والمائل قليلا للسمرة , والذى يضفى علية شىء من قدسية الناسك, والعابد المتبتل ولحيتة المستديرة , والمخضوضبة بالحناء كان ومازال مكان توقير واحترام الكثيرين , من أهل الفريق وساكنية " البقعة " كلها بلا أدنى تحفظ , بل الذين كانوا يوقرونة ويتبركون بطلعتة , البهية والبسيطة عليهم وبعلومة اللدنية الغزيرة , والتى لاتكاد تنضب وانجذابة الشديد للضريح .
-5-
, أما هو فكانت معرفتة باهل الفريق فردا فردا بيتا بيتا ,
وكأنة عاش معهم منذ ولادتة , بل كان مهموم بكل ما يشغلهم من صغيرة ,أو كبيرة وكان بالطبع يحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم لكل ذلك فان حبهم , واحترامهم لة صغيرا أو كبيرا لم يتزحزح أبدا , رغما عن تلك النوبات التى تنتأبة بعض الاحيان من الهياج والغضب , أو الصمت والانقطاع بكلياتة عن كل هذا العالم , بل والانزواء ولو الى حين عنهم بعيدا , ليعود اليهم بعد ذلك أكثر قوة وأنجزاب .
بل كنا عندما يصفؤ مزاجة وزمانة , نجلس معة العصير كلة عند دكة باب الضريح ويعظنا كلنا قائلا ..
ـ يا أولاد " فنتقر " لا تقربوا البحر أنا خلاص ماشى .. أنتوا عارفيين الفقراء والحيران شن قالوا ..
ـ قالوا البحر شال عواموا .. والداير العرسة السمحة .. فى أمدرمانوا دى
.. والكبرى دا ما يقطعوا ... " , أما فى لحظات تجلية النادرة , يسترسل فى حديث نقاء وصفاء منقطع النظير , وهو يقسم بيننا نصائحة التى لا تعد ولا تحصى , ثم يلتفت بحنؤ أثر مناديا ..
ـ يا " ود الصائغ " هاك الزيارة دى .
. وديها للحاجة المبروكة أمك .. وقول ليها غرضك خلاص تب منقضى .. وبأذن وأحد أحد .. بس ما تنسى الجبنة ولا الكسوة .." ليلتفت أيضا بيسراة , ويقول ..
ـ يا " ود عمسيب " قالوا لى داير تعرس .. مبروك ووصيتى القلتها ليك قبال دا .. ختها شنوا حلقة فى أضانك .. وخلينى من قولت الخرطوم محل الرئيس بنوم .. والطيارة بتقوم .. وانت طبعا بالحيل ما نأسيها .." ثم يلتفت بود عجيب وهو يهيم بدخول الضريح قائلا ..
ـ يا ود " دوليب " ما داير الليلة قلاقل .. لو جوكم أولاد الاشلاق .. ما عايز مشاكل خشوا الضريح . "
هكذا كنا نظن ومنذ صغرنا وحتى شببنأ على الطوق بانة , وبحبة لنا وللضريح الشريف ولاهل الفريق , سيبقى معنا مابقى حيا يرزق وتهيأنا كلنا لذلك , ولا شيئى غيرة , الا أن حبة وشوقة الدفين كان للسفر بعيدا , والعودة من حيث أتى ..
, رغما عن ما كان يتمتع بة من تقدير ومكانة سامية , بل كان ومع كبر سنة شديد النشاط , والهمة فى جمع الاخشاب صيفا وشتاءا , لاعادة أعمار مركب الحراز خاصتة , ونحن مستغربين فى ذلك , لعلة يستطيع أن يرحل بها فى يوما ما ,
حتى بشقأوتنا كنا نتهكم بة وبحكاية سفرة المفترض فى كل أحاديثنا معة بعد ذلك .
ولكن وذات خريف راعف وفى جنح الظلام , يقولون أقلع مطمئنا بمركب الحراز وبلا وداع , بعض الناس أستبعدوا مسالة سفرة بمركبة القديمة المهلهلة , بل رجحوا أن يكون قد باعها , وولى بوجة شطر بيت اللة الحرام , أما حاجة
" علوية بنت الكباشى " فقد نقلت وعن نفر لا يستهان بهم , من العارفين بالظاهر والباطن , وأهل الصلاح والفلاح قولهم بانة وببركتة وفيوضة حلم ذات ليلة قمرية مدلهمة , بالاحرف الاولى من السرالباتع الكبير
, وخير بعدها بين البقاء .. أوالرحيل فأختار أصعبهم علينا جميعا.. ومنذ زمن ليس بالقريب , بل وعن رحيلة المفأجى والغامض وأحقاقا للحق .. كثرة الاقاويل .
.
تمت ,,,
فتحى عبد العزيزمحمد
أمدرمان ــ امبدة الراشدين
4/12/2013م
على المرء أن يحب نفسه قليلاً لكي يحب الأخرين. أما أنا فليس لدي من أحبه أو أكرهه."
الطاهر بن جلون
-1-
كان لوحدة يلف ويدور ويدور .. وبعنف حول الصاري الكبير , والمنصوب عاليا خفاقا بشرق النيل , وبالاتجاة المؤازى للحرازة أم قد والغابة العايدكية والمغاربة جنوب , وفى تلك الجمعة اليتيمة الفريدة والاخيرة من شهر الـ " قصير" حسب التقويم الشعبي السناري لجزيرة الفونج , ووسط الحلقة الكبرى والمشهودة لمولد الخليفة الاكبر " ود بلة " , بالضبط وبذات الوتيرة من الطقس الاحتفالى الحاشد والذى يقام بالجمعة الاخيرة الجامعة , لكل الحلال بحر وضهر من شهر" الوحيد " , وبذات التقويم الشعبي القديم والان وبكل الهيلمان والسلطة وزيوع المكانة العالية للفقيرلله " يوسف دور " , الدرويش المتبتل دوما وأبدا , والذى أظهر نجابة منقطعة النظير وهيبة ووقار ونبوغا مشهودا وكبيرا , وهو فى الطلب وهو فى ساحات الذكر الاكبر بالمقام الكبير للعارف بالله الشيخ " حمد النيل " وخليفتة صاحب الوقتى والكائن بغرب النيل , وبحضرة صاحب الحضرة والانوار الشعشعانية والقطب الصمدانى الاصل والمعمعم عن آخرة باللالئ والدرر الكونية المتوارثة , والمتوشح جمالا بالنفحات النورانية وهالات العلوم التوحيدية الكبرى , والانجم الزهرية البعيدة والغير منظورة ,أو مطروقة الا للراسخين فى العلوم بالقراءة فى الليحان والرياضة مع الحيران , كان لحظتها يهتز مكبا على وجهة حينا , ثم يرقص ويترنح حينا آخر , ثم يتارجح .. ويترنح وتأخذة الصحوة الكبرى.. وهو عبدا منتشيا أبديا وعلى تلك الشاكلة أو الهيئة كان صوتة المتقطع المتهدج , قد بدأ يخبؤ .. ثم يخبؤ , ثم يتقطع تماما رويدا .. فرويدا.. فرويدا .. .
أما وفى أخرى فقد بداء للكل وفى تلك الجلسة بالذات بكامل هيئتة وبهائية وصفائة , وحضورة اليقينى المنقطع النظير يرغى ويزبد , بل ويهتز بشدة ثم يسكت هكذا ويطبق تماما وفجاة عن الكلام المباح , وكان هذا على الصحيح فى الليلة الخامسة بعد المائة الاولى , من دخولة وخروجة غانما من الخلوة وسفرة فى بواكير تلك الضحوة للريف الاقصى الشمالى لامدرمان الكبري , تجاءة نواحى ضهرة " أم مرحى " وأتقاءا لنوازل وكروب واهوال مجاعة سنة ستة الشهيرة , والتى قضت على الاخضرواليابس وحتى نواحى بحر الصغيروناب وقوز المطرق مرورا وبجرف الانغرياب والازيرقاب العريض والوسيع , والذى جمع قبلها ناس السودان الاوسط كافة والعربان شرق وغرب , وأيام مجاعة " أم لحم " الكبرى نفسها الاولى وفى سابق العصر والاوان وأيام السلطنة الزرقاء , وحتى وقبل قيام مملكة الفونج والعبدلاب كما تروى بذلك جدتى " بتول " عن جدتها الاولى " خزنة " , وعندها فقط أفتاء شيخة ذو الانوار السطوانية كافة " ودقسوم " , بانها حتما قطعا ربما كانت للضرورة وما جرئ بة العرف والمصلحة العامة ومقتضيات الحال , ولا تثريب أبدا علية أو حرج , ألا وأذا ما أخذ هو بالشدة وبالراى المخالف والمتـاخر زمانا , والمتواتر مجازا , وهو الغير مستقرعلية الان لا قياسا ولا أجتهادا لا فى المهدية ولا قبلها ولا بعدها , حتى هو "سلوكا " بنفسة كان يدعى يقينا بأن جدة لامة , " ود أللبنى " كان أمير أمراء فى المهدية , وكانت لة هيبة ووقار ومكانة قل أن يتبواها أحد فى مجلس المهدى الامام , أوعند حضرة خليفتة " التعايشي " الحاكم المطلق بأمرة بعد ذلك , وعندما قال لة وبكل صدق وشوق وفى حضرت أخية "جراب الرأئ " يعقوب ,وسيف الثورة البتار " عثمان جانوا " حاكم دارفور وكردفان الاول , وقبل توشكى وقبل وصول الدكيم نفسة لدنقلا العرضى بسلطاتة الكبرى والطاغية والمتنفذة وبقليل :
ـ واللة يا ود حواء وأدم ...لوما حمرتك دى الاباها المهدى ..كنت دخلتك جوا بطنى دي .." .
-2-
وهنا أنقطع وصل الحديث ولا مجال حتى لمراجعتة بعدها بتاتا , بل أكد بان جميع الاسرار قد قبضت وأنة تلقاها من جدة لابية والذى تلقأها بدورة من شيخوة "اللقانيين " بمصر المؤمنة , وبعدها ذهب بنا بعيدا .. بعيدا فى سردة المشوق , ونحن كلنا آذان صاغية لما كان وما سيكون ,
, وأن صوتة المتهدج كان ينطق بالاحرى بالصدق , ولا شىء غيرة وتاكد لنا بان علومة كان يستغيها , على الارجح من علوم لدنية أخرى .. وبطريقة أوما .
, ثم بدأ مرة أخرى يرغى ويزبد ويتشنج , وخصوصا عندما يفاخر بعد ذلك بمناقب شيخة " ود حسونة " المغربى , وهو المغرم باحوالة وصفاتة وأفعالة كلها , ليقول لنا وهو وبذات نفسة وقدرة وعندما مر بجيشة اللجب من الفقراء وفى مقدمتة الحرس المكادية , تمنع شيخنا المتبتل أبدا تماما عن مقابلتة وهو كبيرهم والذى أخذ البرنجية عن جدارة وأقتدار , وقال لحوارأ لية : ..
- ـ لوسالك عنى قل لة خرج باكرا .. ومتخفيا بالكامل وفى مصلحة لة بعيدا من الخلوة .., بل كان من عاداتة المعروفة والشهيرة أنة لا يحب القيام أو مقابلة العظماء والجبابرة أطلاقا , لا أولاد "عجيب " ملوك الحلفاية ولا ملوك جعل كافة , بالضبط كشيخة الاول " الخواص " فى مصر المحروسة , كان لا يقوم أو يقابل حكام زمانة من الباشوات ولا السناجك والوجاقين , وقال لة بصريح العبارة :
ـ " أنا ما عندى قدرة على مقابلة ناس الدنيا ..؟ااا" , ورغما عن ذلك وضجيج الناس بين مصدق ومكذب قام الشيخ " ود حسونة " وبأبويتة وسماحتة وتقديرا لمجاهداتة الكبرى والتى فأقت الحد , بأهداءة بردة كبردة " الاجهورى " الشهيرة والمعروفة أعلا لمجاهداتة الكبرى مع النفس , وقال وقتها لحيرانة الخلصاء وبصريح العبارة وهو يجتاز " شندى" تجاءة أحبابة ألانقرياب :
ـ أتركوة دا أخوى " بسبار" العلوم .. ماسك الطريق مالانوا .. " , بل وبعدها قال :
ـ وتأكدت لنا بعد ذلك أيضا صلاتة الوثقى وأتحادة الكبير مع صفية الشيخ " عبد الرازق " لزم وفى مجملها , والمتواتر ما ذكروة أهل العلم والرواة الثقاة , بأنة وفى يوم خروجة مودعا مجلسة العامر , قال مخاطرا نفسة وهو يرى كل هذة الدنيا والجاة والعز المقيم والسلطان الكبير :
ـ حسبى اللة .. سيد المزار تاكلة النار " فكاشفة وأرسل الية فى الحين والحال واللحظة قائلا :
ـ قول لية يأريتا نار الدنيا .. ما نار الاخرة ".. , فكان بالفعل كما قال أذا أنعكس علية فيما بعد وذات يوم شرار بندقة , وهو يحاول أن يقتل تمساحا , كان يعيس فسادا كبيرا فى جزائرة العديدة , فكان سببا فى موتة , فسبحان الله الذى لا أنقضاء لملكة .. .
, وفى هذا قال متأثرا
ـ وبذلك .. أنتهت واللة .. وبالفعل دنيا عريضة
وكانوا كلهم أقطب علوم وأهل علم وتنوير وأجتمعوا على فقة وعلم وتقريبا فى زمن وأحد سمح بالحيل ..
الشيخ أدريس والهميم ود عبد الصادق وأبوقرون وصغيرون وعلى النيل ودفع اللة وأبودليق وودشوشاى فى السافل , ويعقوب وموسى فى الصعيد وملمين باشياء كثيرة وأسرار لاتحصى ولا تعد ..
ونشروا الدين بعد سقوط سوبا واصلوة بالخوارق الالهية والتى كانت تجرى على أيديهم كرامات مزهلة . فى ارض النوبة سحرة موسى وفرعون الاوائل كما بقولون والله أعلم ,
وذلك كلة كان بزمن ليس ببعيد من نعية , وحضورة لرحيل الشيخ القطب الاوحد"عبد الرازق " نفسة فهو سبيقة للحاق بالرفيق الاعلى , وكما يقولون وبينما كان الشيخ "ود حسونة " ذات يوما متحكرا , مجلسة بالشرق فى بناحية حفير أبو قنيطير " الشهيرة .. راي زحمة بالمشرع والبر الاحمر , قبالة بلاد البطاحين فسال حوارة " عبد السلام" جدى لامى والعهدة لحبوبتى "ريا بنت عمر" الحمدية البادرابية " قائلا ..
- ها ناس اللمة شنو البهناك ؟؟ " قالوا لية وربما حوارة " الكوفى " واللة أعلم أوحيرانة الدناقلة أحمد تود أو موسى فريد أو غيرهم وهم كثر ..
- دى جنازة شايلنها فى مركب لدفنها بالشرق " فرد عليهم ولم يقم من مجلسة وهو يترحم وينعى الجميع .. ..
ـ "الدوام للة يا ناس .. أخوى " عبد الرازق " .. أنتقل .
-3-
أما مشغولياتة ومجاهداتة فقد فاقت الحد والوصف , وهو يتدبر أمورطلابة وجزائرة ومالة الذى لايحصى ولايعد , وكان قبلها قد طاف وساح وفى طريقة للحج , بكل نواحى الدنيا المعروفة أنذاك , ولمدة أثنتى عشرعام تقريبا فيقولون جازمين بالطبع بمرورة بمصر ودمشق , أما القدس فيجتهدون ويرجحون زيارتها , أذ لم يكن هناك مانع شديد وقوى تلك الايام من حرب وبلاء وخلافة , كما أن المتواتر أن المحمل الدارفورى كان سباقا فى زيارتها واللة أعلم , بل وكانت لة هيبة ومكانة عند سلطان " أسلامبول " نفسة
ويقال بأن لة أعتقاد كبيرفى صلاحة وفلاحة , لدرجة أنة عرض علية القرب منة وفى كريمتة الوحيدة ومعها دنيا عريضة , فرفض كل ذلك على أستحياء :
ـ " والكثير ..والكثير .. اة .. " وتلك الايام نداولها.. " و كانت أيام .. ونعم الايام .. ولو خيرت لكنت عبدا بينهم .. وكانوا رجال ذوى صولة وجولة .. وكل الناس تقول لاحول .. .
ثم أخذ بعدها يرغى ويزبد , وليقول مواصلا لحديثة بعد أن أضجع على جانبة الايمن , بعض من الوقت الا قليلا , حيث جاد هذة المرة بحديث آخر مختلف , عن ما كان وما سيكون قال " فى البدء والاصل لم تكن هناك خرطوم .. ولا يحزنون بل كان هناك النيل والضريح الجليل ولا شىء قبلة .. وكان ذلك بزمن ليس ببعيد من " فقد " درمان " العنجاوى نفسة .. ,
رحلة أمة الطويلة والمكوكية للبحث عنة .. بحثت عنة كما يقولون فى كل مكان بالايام والشهوروالسنين الطوال , سالت أهل الزرايب والجلابة والنخاسة النازلين الصعيد والطالعين , سالت الزهاد والعباد أهل الظاهر والباطن :
_ يا شيخنا ولدى ساقوة شلك ؟ " تريدة ان يرد عليها ويقول ليها ..ـ
_ ولدك ما شايفة هناك .. ما بخرمج فى السيل والطين مع الوليدات ديك ..Jأمشى سوقى منهم .. الشفقة تطير " ولكنة حتى بهذة الفرية هل أضنى عليها
ولم يقلها لها بصريح العبارة ؟ هل أخفاءها منها .. كان رحمة بها أو نكاية عليها .. أم كانت عديل راحت فيها .. وهكذا يتركها وهو يقول لها مواسيا :
ـ يا " أمدرمان " عديلة كمان ..
وقولى تانى عديلة .. وأنشاء اللة اليوم الابيض .. لا يفوتك أبدا ..أبدا ...
" وهذا الاخير لا وجود حقيقة لة الا فى مخيلتها , وهى الملهوفة دائما وابدا , وهى مع ذلك كلة لاتكف عن السؤال عنة , على طول الضفاف سالت عنة النواتية والسماكة والمراكب الغادية والرايحة , وأشارة النواتية لها دائما وهى واقفة كالفنار نهارا أوليلا " هذة أمدرمان " , حتى عندما حدثت وفاتها بعد مجاعة " أم حنيضيل " كما يتقولون أو" أم لحم " أصبحت أسم على المدينة كلها بعد ذلك , ثم سكت فجاةعن الكلام المباح بل وفى هذة الليلة الاخيرة , من رمضان ذاك العام وسياحتة الغيبية الطويلة بنا , أنتظرناة ونحن المتعشمين ليتابع لنا أقاصيصة الغرائيبية والعجيبة والتى أزهلت معنا , هداءة النيل الخالد نفسة ولكنة ولاول مرة يخلف الوعد مجازا , ويذهب فى رحلة سياحتة الابدية أو خلوة أخري داخل بحر ذاتيتة العميقة , كدرويش متبتل منقطع فى عزلة ذاك العارف باللة والقادم من أعماق التاريخ السحيق , أو ذاك القادم من أزمنة حفر البحر نفسها
تلك الظهيرة وبعد أن جال بنظرة , بعيدا بعيدا قال وهذا ربما أخر عهدنا بة على الاطلاق , وهو متحفزا " كان الفيضان ذاك العام شيئا مخيفا ,
عند نقطة التقاء البحرين أذا غمر موجة العالى كالطود كل الجروف , وسواقى القيف الامامية , أما الجزرفكلها كانت بأستماتة وبمعجزة تقاوم وبلا جدوى ..
. التيارات الجارفة " والكونيات " أى الشيم العاتية المخيفة تماما ..
-4-
قد يعجبك ايضا
أو يترعرع بين أحياءها العريقة ,كاى وأحد من أبناءها , ولكن حبة لها جارف ويفوق كل تصور , حتى ان جل حياتة كانت بها , ولقدسية أضرحتها ومزاراتها .. , كان يسير بها سائحا متجولا , من أقصاها الى أقصاها ,حافى القدمين ومطلقا لشعرراسة العنان , فى جدل غليظة مغبرة اللون , وفى ذهد وورع النساك والعباد ,
شديدين ولم تطاء قدماة لاخرطوم التركية السابقة ولا الاحقة ,
وأعتقادة الجازم ينصب وما زال على أن كل مصيبة او نكبة حلت بالبلاد
, أوالعباد كان سببها تلك " الخرطوم " كرش الفيل , وحدها بلد "
الجربندية الخطرية الظلمة , وهو فى قمة هياجة يناوشة " رضوان " قالوا ..
" ـ يا سلوكا بحر أزرق طلع الرصيف وخش الخرطوم .. يعنى أمدرمان بيوت الطين دى والقش .. حترقد السنة دى قرض .. لياتى صوتة مولولا منفعلا وهو كتلة من الهياج والاشتعال , يطلق تحزيراتة ألمروعة والتى يصيب رشاشها القريبين والبعيدين ..
ـ شوف يا ولد يا "رضوان " أعدل ...كلامك فيضان شنوا .. أمدرمان دى أنتوا واللة جاهلنها ساكت .. حرم هى الساس والراس .. بقعة سيدى" المهدى " الامام .. محروسة بايأت اللة وبأهل اللة يا ولدى دى بلد صلاح وفلاح .. وأصلوا ما بتنضام .. أبدا ..أبدا.. ليضيف بعدها وفى تؤكيد شديد ..
ـ وحتى ولو الفيضان طلع الخرطوم ما يطلعها .. ولكن الحدود هى الحدود .. وزمان الفقراء شن قالوا .. فى خرطومكم دى .. ما قالوا عديل لولا مشايخها العارفين والواصلين " ودفايد"و" أبوجنزير " خصيم المدير.. بذات نفسة لكانت يا حرقة ياغرقة .. .. "
بالطبع كان يواصل فى تعداد مناقب البقعة ,
وأفضالها على البشر وكل السودان ويترنم " أنا امدرمان .. أنا أمدرمان .
. أنا السودان " وهو ومع كل تعصبة وأنحيازة الى صفها , عن سائر البلاد والامصار فان أهل الفريق لا يعرفون بالضبط , من أين حتى هوى "
" سلوكا " نفسة اليهم ؟؟اا أو الى أين مقصدة ؟؟اا , ولكن حاجة
" سعاد بنت الفهيم " أدخلت البارحة نفسها والجميع , فى مجادلة عقيمة مع شيخ الطمبرة " ودالبحير" , عندما أدعت بأنة جاء يقينا بصحبة نفر من السماكة أولاد "طيفور " من جهة الصعيد ..
المختلفة , ممتهنا بمركبة الواهنة صيد الاسماك , وغزل الشباك
والحج لبيت اللة الحرام , وزيارة قبر المصطفى علية أفضل الصلاة والتسليم , ومكث بالضريح بعد ذلك مجاورا وخادما لة سنينا عددا , حتى بليت مركبة وتكسرت وتقطعت بة بعدها السبل , فأمتهن مع وهن عظمة زراعة الجروف وحراسة الضريح ليلا , أما بعض من عاصروة من أولاد فريق "العباسية "وفريق "
ريد " , فيقولون بأن الدرويش " سلوكا "المعروف بحكاوية التى لا تنضب والمثيرة للجدل والاخيلة , ربما كان من هيئتة الجادة واحدا من مسرحى الاورط العسكرية المصرية القديمة , بينما يرجح بعضهم بانة وبغموضة , ظهر فجأة وكنبات محلى قديم قادم من أعماق , جزور وجهاء الشرق الكبير أبان فترة بناء كبرى النيل الابيض وفى الحقيقة , وعن مقدمة كثرة الاقاويل كما أنة وبزهدة الذى عرف بة , ووقارة وبلونة الناصع والمائل قليلا للسمرة , والذى يضفى علية شىء من قدسية الناسك, والعابد المتبتل ولحيتة المستديرة , والمخضوضبة بالحناء كان ومازال مكان توقير واحترام الكثيرين , من أهل الفريق وساكنية " البقعة " كلها بلا أدنى تحفظ , بل الذين كانوا يوقرونة ويتبركون بطلعتة , البهية والبسيطة عليهم وبعلومة اللدنية الغزيرة , والتى لاتكاد تنضب وانجذابة الشديد للضريح .
-5-
, أما هو فكانت معرفتة باهل الفريق فردا فردا بيتا بيتا ,
وكأنة عاش معهم منذ ولادتة , بل كان مهموم بكل ما يشغلهم من صغيرة ,أو كبيرة وكان بالطبع يحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم لكل ذلك فان حبهم , واحترامهم لة صغيرا أو كبيرا لم يتزحزح أبدا , رغما عن تلك النوبات التى تنتأبة بعض الاحيان من الهياج والغضب , أو الصمت والانقطاع بكلياتة عن كل هذا العالم , بل والانزواء ولو الى حين عنهم بعيدا , ليعود اليهم بعد ذلك أكثر قوة وأنجزاب .
بل كنا عندما يصفؤ مزاجة وزمانة , نجلس معة العصير كلة عند دكة باب الضريح ويعظنا كلنا قائلا ..
ـ يا أولاد " فنتقر " لا تقربوا البحر أنا خلاص ماشى .. أنتوا عارفيين الفقراء والحيران شن قالوا ..
ـ قالوا البحر شال عواموا .. والداير العرسة السمحة .. فى أمدرمانوا دى
.. والكبرى دا ما يقطعوا ... " , أما فى لحظات تجلية النادرة , يسترسل فى حديث نقاء وصفاء منقطع النظير , وهو يقسم بيننا نصائحة التى لا تعد ولا تحصى , ثم يلتفت بحنؤ أثر مناديا ..
ـ يا " ود الصائغ " هاك الزيارة دى .
. وديها للحاجة المبروكة أمك .. وقول ليها غرضك خلاص تب منقضى .. وبأذن وأحد أحد .. بس ما تنسى الجبنة ولا الكسوة .." ليلتفت أيضا بيسراة , ويقول ..
ـ يا " ود عمسيب " قالوا لى داير تعرس .. مبروك ووصيتى القلتها ليك قبال دا .. ختها شنوا حلقة فى أضانك .. وخلينى من قولت الخرطوم محل الرئيس بنوم .. والطيارة بتقوم .. وانت طبعا بالحيل ما نأسيها .." ثم يلتفت بود عجيب وهو يهيم بدخول الضريح قائلا ..
ـ يا ود " دوليب " ما داير الليلة قلاقل .. لو جوكم أولاد الاشلاق .. ما عايز مشاكل خشوا الضريح . "
هكذا كنا نظن ومنذ صغرنا وحتى شببنأ على الطوق بانة , وبحبة لنا وللضريح الشريف ولاهل الفريق , سيبقى معنا مابقى حيا يرزق وتهيأنا كلنا لذلك , ولا شيئى غيرة , الا أن حبة وشوقة الدفين كان للسفر بعيدا , والعودة من حيث أتى ..
, رغما عن ما كان يتمتع بة من تقدير ومكانة سامية , بل كان ومع كبر سنة شديد النشاط , والهمة فى جمع الاخشاب صيفا وشتاءا , لاعادة أعمار مركب الحراز خاصتة , ونحن مستغربين فى ذلك , لعلة يستطيع أن يرحل بها فى يوما ما ,
حتى بشقأوتنا كنا نتهكم بة وبحكاية سفرة المفترض فى كل أحاديثنا معة بعد ذلك .
ولكن وذات خريف راعف وفى جنح الظلام , يقولون أقلع مطمئنا بمركب الحراز وبلا وداع , بعض الناس أستبعدوا مسالة سفرة بمركبة القديمة المهلهلة , بل رجحوا أن يكون قد باعها , وولى بوجة شطر بيت اللة الحرام , أما حاجة
" علوية بنت الكباشى " فقد نقلت وعن نفر لا يستهان بهم , من العارفين بالظاهر والباطن , وأهل الصلاح والفلاح قولهم بانة وببركتة وفيوضة حلم ذات ليلة قمرية مدلهمة , بالاحرف الاولى من السرالباتع الكبير
, وخير بعدها بين البقاء .. أوالرحيل فأختار أصعبهم علينا جميعا.. ومنذ زمن ليس بالقريب , بل وعن رحيلة المفأجى والغامض وأحقاقا للحق .. كثرة الاقاويل .
.
تمت ,,,
فتحى عبد العزيزمحمد
أمدرمان ــ امبدة الراشدين
4/12/2013م