القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

عُـواء.. قصة قصيرة. بقلم: عبد المجيد أحمد المحمود/ سوريّا

عُـواء.. قصة قصيرة. بقلم: عبد المجيد أحمد المحمود/ سوريّا

عُـــواء

تنتفضُ بشدَّة…قلبُها يخفقُ كفرخِ حمامٍ وليدٍ غادرتْهُ أمُّه في ليلةٍ عاصفة…
الشِّتاءُ يأتي باكرًا هذا العام تهمسُ في سرِّها بصوتٍ متقطِّع… منذُ عشرينَ عامًا لم نرَ الثَّلجَ في تشرينَ الأوَّل و بهذه الغزارة… لا لا أذكرُ ذلك حتى منذ وعيتُ على هذه الدُّنيا…
يقاطعُ ارتجافاتِها بكاءُ صغيرٍ وضعتْهُ في اللفافة الرقيقة ـ التي جاءتْ في صندوقِ المعونات ـ تتأوَّه:
ـ يا الله… كم يبكي هذا الصغير…حرام لو أنَّه هادئٌ وعاقلٌ كأخيه؟!!
آآآآه… آه… هكذا تركْتنا يا أبا محمد… كم قلتُ لكَ دعنا من هذه الأمور… الثورةُ ليست للفقراء… ها أنتَ تتركُنا لا حولَ لنا ولا قوَّة.
 
 هيَّا يا جماعة… هيَّا أيُّها الأخوة … يا الله… يا رب… صرخاتُ الاستغاثة لاتزالُ تسري في أوصالِها كأنَّ تلكَ الكارثةَ تقعُ لتوِّها…).
نعم لم يخرجْ منْ تحتِ الأنقاضِ أحدٌ من العائلةِ سواها ومعَها توأَماها الصغيران… عانتْ بعضَ الشَّيءِ من كسورٍ خفيفةٍفي الحوض، لكنَّها سعيدةٌ لأنَّها استطاعت بجسدِها النَّحيلِ أن تحميَهما.
 
أبو محمد لم يكن هناك… كان على إحدى جبهاتِ القتال… أمُّه.. أبوهُ، و ثلاثةٌ من إخوتِه الشَّباب… و… و… آآآآآه ابنتايَ ـ آية و منوة ـ لم يخرجْ أيٌّ منهم من تحت الرَّدمِ إلَّا أشلاءًا….
ـ هههه… سبحانَ الله وكأنَّني في هذا اليومِ المشؤوم كنتُ على موعدٍ معَ الأحزان والألم، أمَّا أبو محمد فكأنَّهُ علمَ بالخبرِ على ما يبدو، ولم يعدْ يرى الحياةَ ضروريَّةً بعد فقدانه كلَّ أحبابِه، لذلكَ عندما روى لي أصدقاؤُه كيف اقتحمَ الثَّكَنةَ بصدرِه العاري حاملًا بندقيةً خفيفةً فقطْ، ودونَ تلقِّيهِ أيَّةَ أوامر من أيِّ أحد، لم أستغربْ، ولم أندهشْ… قلتُ لهم: لا بدَّ أنَّهُ سمعَ ندائي وصراخي وعلمَ بالمجزرة فآثر اللحاقَ بأحبابه.
ـ لكنْ…(الله يصلحك يا أبَا محمد وأنا وهذان التوأمان ألم تفكرْ فينا أبدًا؟!!).
( لا… يا امرأة أنتم أغلى من روحي)… هكذا كانَ يقولُ لي دائمًا ولكن في الواقع لم يستطِع الصَّبرَ من أجلنا…
ـ ما هذه التَّخاريف التي أهذي بها… هل هي غيبوبةُ البرد؟!!
 
كلُّ تلكَ الأفكارِ كانتْ تلسعُها بجليدِها مع الثلجِ المتساقطِ دونَ هوادة، وهي تقطعُ الأزقَّةَ المُعتمةَ الغارقةَ في الصّمتِ والنّوم… دونَ أن يتسلَّلِ الخوفُ إلى قلبِها… هي فقط تأملُ أن تجدَ أبا فارس في محلِّ المحروقاتِ لتشتري منهُ ولو ليترًا من المازوت.. هي لا تعرفُهُ.. قالوا لها: إنَّه يجلسُ هناكَ حتى ساعةٍ متأخرةٍ من الليل.
 
جزاها الله خيرًا جارتي أم علي لقد وصفت لي الطريقَ إلى ذلك المحل بشكلٍ دقيق.
أنا أتحمَّلُ البردَ ولكن كيف لهذين الجسدين الطّريين الضّئيلين أن يتحمَّلا قساوة وأزيزَ هذا الصَّقيع؟!
عليَّ أنْ أسرِعَ… لأنَّ مراد ذاك الشَّقي/النقَّاق/ لن ينتظرَ كثيرًا حتى يُعاوِدَ البكاءَ، أمَّا شِهاب فلا أخشى عليه لأنَّه ما إنْ ألقمهُ ثديي حتى يغطَ في النوم لعدةِ ساعاتٍ…
أهلُ هذه القرية ينامون معَ الدَّجاجِ على ما يبدو… لم أتعرَّف على أحدٍ من الجيرانِ بعدْ، فهذا هو يومنا الأولُ هنا… وبالكاد استطعتُ تأمينَ غرفةٍ للمبيت ومدفأةِ مازوتٍ مهترئة… صحيحٌ أنَّها غرفةٌ مصدَّعةُ الأركان و شقوقُها العريضةُ تشي باختباءِ الأفاعي والعقاربِ فيها إلَّا أنَّها أفضل من لاشيء.
 
أثناءَ هروبِها من القصفِ المتواصلِ على بلدَتِها، لم تكنْ تتوقَّعُ أن تنجحَ في خطَّتِها للهرب من تلكَ المناطقِ التي اضطرَّتْ للمرورِ بها بحثًا عن أماكنَ أكثرَ أمنًا- فهي لا تستطيع أن تحتملَ فقدانَ أيِّ عزيزٍ بعد- تلكَ المناطقِ البائسةِ المليئةِ بالرِّجالِ طويلي اللحى، حليقي الشّواربِ.
كلَّما عاودَتْها ذكريات الأيَّام القليلة التي عاشتْها بينَهم، تنهضُ واقفةً تشدو بأغاني أمّ كلثوم وفيروز لتشعرَ ببعضِ الرَّاحةِ و الاطمئنان… كانَتْ قدْ حاولَتْ أن تستعينَ بقراءةِ القرآن للتّخلص من رعبِها و خوفِها الشَّديدين منهم، لكنَّها لمْ تستطِعْ تفسيرَ عدمِ راحتِها بذلك، ولم يُجدِ نفعًا معها رغمَ أنَّها لا تقطعُ صلاةً أبدا.
 
أنفاسُها الملتهبة أضحتْ أسرعُ من خطواتِها، تغذُّ السيرَ بثوبِها المرقَّعِ كقلبِها الموشَّى بأصنافِ الحزنِ و الهمّ… وقد خلتِ الشَّوارعُ إلَّا من خشخشاتِ الأوراقِ والغبارِ و الرِّيح.
 
هل هو ذاك؟
إن شاء الله يكون ذلك الضَّوء الخافت هو محلُّ أبي فارس… يا ربُّ فقط لو نصفُ ليترٍ من المازوت يكسرُ بردَ هذه الغرفة… يا ربُّ ليس لأجلي… فقط لأجلِ تلكما الكتلتينِ الغضَّتينِ من اللحم.
لم يلفتِ انتباهَها سوى تلك الجمراتُ التي تشعُّ من بعيدٍ رغمَ ضآلتها… تكادُ تضحكُ وقد بدأَ الدِّفءُ يتسرَّبُ إلى جسدِها…
ما هذا أيتُها المجنونة؟ جمراتٌ على بعدِ عشرين مترًا أو يزيد ستبعثُ فيكِ الحرارةَ والدِّفء.. عليكِ أنْ تكوني أكثرَ تعقُّلًا و اتِّزانًا.
هو ذاكَ أبو فارس يجلسُ كعادتِه خلفَ الواجهةِ الزُّجاجية وهو يحرِّكُ قطعةً من الكرتون فوقَ جمراتٍ تعتلي نرجيلةً طويلةً، وقد أغلقَ عليهِ البابَ من شدَّة البردِ، وبدا أنَّه لا يكترثُ لأمرِ الشَّارعِ- تمامًا كما وصفتْهُ لي جارتي- ورغمَ أنَّ المحلَّ يمتلئُ بالمازوتِ والغاز والبنزين إلَّا أنَّه لا يوقدُ أيَّ نوعٍ من المدافئ، ربما يكون ذلك خوفًا من اشتعالِ النارِ فجأةً في المحل فتكون الطَّامة الكبرى وربما يكونُ لأسباب أخرى لا يدركُها سواه.
ها أنا سأصل… هل هذا هو أبو فارس؟ إنَّه ليسَ كبيرًا كما تخيلتُه… هو لا يتجاوزُ الأربعين ربما… ليس مهمًّا… المهمُّ أنني وجدتُه، وأنَّني سأحملُ الدِّفءَ إلى أبنائي.
يبدو أنّ لديه محلًّا ضخمًا أشبه( بكازية) محروقات، ولن يضيرَه بعضُ ليتراتٍ من المازوت يُقرِضْنيها…
التفتَ أبو فارس إلى تلكَ المرأة التي بعثتْ فيهِ الرُّعبَ، فهو لم ينتبهْ لها إلَّا وهي تقرعُ بابَه، همسَ: بسم الله الرحمن الرحيم… هل هذه جنيَّة؟! وساءلَ نفسَهُ بوجل: ماذا تريدُ امرأةٌ في هذا الوقت؟ وما يُخرجُها في هذا الجوِّ التَّعيسِ؟!… وأغلبُ أهل القرية الآن يغطون في نومٍ عميق.
بحذرٍ فتحَ الباب…ماذا تريدينَ يا امرأة؟
تلهثُ أمُّ محمّدٍ وهي تعجلُ بالقول:
ـ أرجوك يا أخي… أنا نازحةٌ في بلدكم، وصلتُ اليومَ وأنتَ ترى البردَ الشَّديد، وقد تركتُ طفليَّ الصغيرينِ في غرفةٍ أشبهُ بالثلّاجة… أريدُ بعضَ المازوتِ للمدفأة…
ـ على رسلكِ يا امرأة خلينا نفهم…
شيطانُ أبو فارس، أو ما يُبلبعُهُ يطلقانِ نظراتِه باتجاهِ تفاصيلِ جسدِها، يتفرَّسُها… ينهشُها بعينيهِ الثاقبتين… فتتنبَّهُ هي لذلكَ وترتدُّ خطوةً للوراء، وتبلعُ ريقها كأنَّها تتجرَّعُ سمًّا، تهمسُ في سرِّها: هذا الرجل غير مُطمئِن.
ـ هل تريدين بالفعل مازوتًا؟
ـ نعم.. و ماذا غيرُه سيخرجُني في مثلِ هذهِ الظُّروف… أرجوكَ لقد تأخرتُ على أطفالي.
ـ أممممممم… آآآآه…حسنًا… كم ليترًا تريدين؟
ـ خمسًا إن كان ممكنًا.
ـ (تكرم عيونك الحلوة).
بريبةٍ و وجلٍّ و بصوتٍ خفيض تردُّ: الله يكرمك، فيما هو لازال يتفحَّصُها من مفرقِ رأسِها إلى أخمصِ قدميها، و هي تحاولُ لملمةَ ثيابِها بحركاتٍ من التوتر و الخوف.
ـ لكنْ… لكنْ….
ـ ماذا؟ هل هناك شيء؟ هل أنتِ خائفةٌ من شيءٍ ما؟!
ـ لا ولكن هل يمكنُ أن تمهلَني حتى الغد لأعطيكَ ثمنَها.
ابتسمَ أبو فارس ابتسامةَ من يخطِّطُ ويدبِّرُ، وقد وجدَ فرصةً ملائمةً لتحقيقِ مآربه، وفي تلك اللحظةِ بالذات أفْزَعَ الاثنين صوتٌ غريب… لم يصدِّقا ما رأيَا… معقول!!…. ضبعٌ هائلُ الجثّة يبرزَ بشكلٍ مفاجئٍ أمامَهما.
أُصيبَ أبو فارس بما يشبهُ الشللَ ولم يستطعْ حتى إغلاقَ البابِ الذي كان على بعدِ خطوتين أو ثلاثةٍ منه…لكن فجأةً يغيبُ الضَّبعُ بلمحِ البصر…كأنَّهُ مجرَّدُ شبح.
بضعُ دقائق تمرُّ قبلَ أن يستفيقَ من هولِ المفاجأةِ و يعودَ ليستغلَّ الموقفَ بدهاء: هيا..هيا علينا الإسراعَ… هذا شيءٌ مريع… علينا إغلاقُ البابِ الحديديِّ الخارجيِّ قبلَ أن نغدو لقمةً سائغةً لذلك الضَّخم.
والآن… سأهبُكِ المازوت هبةً و بدون ثمن ـ يمدُّ يده باتجاه خصرِها ـ فقطْ شيءٌ بسيطٌ يسيرٌ أريدُه منك… يقتربُ منها… تتراجعُ نحوَ الخلف… وبعد صراعٍ من الكلماتِ والصّرخاتِ والاستغاثاتِ المخنوقة، ينتهي الأمرُ في بضعِ دقائق… تلملمُ ثيابَها، وشعرَها وثدييها، فيما هو يستلقي على ظهرِه كمن حقَّقَ انتصارًا باهرًا…تنتفضُ هيَ كمنْ أصابَهُ المسُّ… تحملُ المازوتَ، ترفعُ بابَ المحلِّ فيصعقُها ذاك الرأسُ المُرعبُ مرَّةً أخرى وقد كشَّر عن أنيابٍ مخيفة راحتْ تلمعُ تحتَ الضَّوء الخافت، تسمَّرتْ في مكانِها، فيما أبو فارس لم يستطعْ حتى النهوض، راحَ الضبعُ يديرُ نظرَه بينهما، وكأنَّه يبحثُ عن الفريسةِ الأفضل، وبما أنَّ ذي الكرشِ كان أسمنَ وأكثرَ استسلامًا فقد خطا الضبعُ نحوهُ خطوتين مُفرِجًا عن ممرٍّ لها عبرَ الباب…
لم تتردَّدْ لحظةً… هرعَتْ إلى الخارج بما تحمل، ركضتْ مغمضةً عينيها، و لم تُلقِ بالًا لأصواتِ أشياءَ تتحطمُ وتتمزَّق بين الأنيابِ الحادَّة، هي فقط تريدُ أن تنسى هذه الدَّقائقَ… تريدُ أن تحملَ الدفءَ إلى الصِّغار بعدَ أنْ دفعتْ ثمنًا يساوي حياتَها…
في الطَّريق.. تحدِّثُ نفسَها لا بدَّ أنَّ مراد قد أيقظَ الجيرانَ الآن بصوتِ بكائِهِ العالي…
حينَ أدركَتْ غرفتَها… دفشَت البابَ بقوةٍ و هي تغني لفيروز… لم تسمعْ أيَّ صوتٍ أو صراخٍ أو بكاءٍ كما كانت تتوقّع…
فقط رأت أمامَها كتلتين باردتين زرقاوين.

}