قراءة نقدية في «نص القصيدة» للشاعر يعقوب أحمد يعقوب
بقلم: فاطمة سعد الله
القسم النظري
شهد الشعر العربي تحولات متعددة عبر تاريخه الطويل، إذ توالت عليه الثورات الشكلية والجوهرية من شعر التفعيلة إلى قصيدة النثر، وصولًا إلى ما يُعرف اليوم بـ «النص المفتوح». هذا النص الذي يتجاوز الحدود الأجناسية، ويجمع بين الروح الشعرية والبعد السردي، فصار فضاءً متحركًا بين الأنواع والأصوات والتجارب.
ظهر مفهوم «النص المفتوح» في ستينات القرن الماضي مع جوليا كريستيفا في إطار التناص، قبل أن يوسعه رولان بارت وأمبرتو إيكو في مؤلفه الشهير الأثر المفتوح سنة 1958، حيث رأى أن النص عمل حيّ قابل لقراءات لا نهائية، يتغير مع كل قارئ وزاوية رؤية.
وفي العالم العربي برز المفهوم في السبعينات مع الشاعر العراقي فاضل العزاوي الذي كسر المألوف الشعري وسعى إلى تجاوز قوالب قصيدة النثر نفسها، فكان النص المفتوح بالنسبة إليه فضاءً للتجريب والتحرر من كل الحدود الشكلية.
القسم التطبيقي
نص «القصيدة» للشاعر الفلسطيني يعقوب أحمد يعقوب نموذج حيّ للنص المفتوح العربي، إذ يتجاوز الأطر الكلاسيكية ويتخذ من التفاعل بين الحياة والمقاومة نَسَغًا شعريًا يتجدّد مع كل قراءة.
النص:
بعْدكَ ليْس قبلكَ تبْدأُ القصيدةُ منْ نبضك الشهيِّ والقبضةُ العتيدة التي مازالتْ تدقُّ الجدرانَ.. جدرانَ الخزّانِ والصخرَ والصوّان بآخر الأحزان والعَتَمة البعيدة...
تحليل العنوان والبنية
العنوان «القصيدة» في ظاهره بسيط ومباشر، لكنه يحمل في باطنه دلالات فلسفية تتجاوز المفهوم التقليدي للقصيد إلى فضاء أوسع يجمع الشعر بالحياة ذاتها. فالنص ليس وصفًا للقصيدة بل هو القصيدة ذاتها؛ ولادتها ومخاضها وتحوّلها إلى كيان نابض بالمعنى.
تتكرّر العبارة «بعدك ليس قبلك» لتعلن لحظة التحول الكبرى في النص. فالشاعر يخاطب الغائب الحاضر، الذي قد يكون الوطن، الشهيد، الإنسان المقاوم، أو حتى الذات المتجددة في صراعها مع الألم.
من خلال استدعاء رمزيّ لرواية رجال في الشمس لغسان كنفاني، يوظّف الشاعر استعارة «الخزّان» بوصفها مأساة وجودية تختزل سؤال الصمت والخوف والعجز، ثم يعيد بعثها في بعدٍ مقاوم جديد يدعو إلى الفعل والحياة، إلى «دقّ جدران الخزان» بدل الموت في العتمة.
النص المفتوح في تجربة يعقوب أحمد يعقوب
يمتزج في نص الشاعر الحسّ الشعري بالبعد التشكيلي، فيغدو النص لوحةً متعددة الطبقات، تتجاور فيها الصورة والرمز والإيقاع. فالنص يكتب بالألوان بقدر ما يكتب بالكلمات، وتصبح القبضةُ والنبضةُ رمزين متقابلين للحياة والمقاومة.
اعتمد الشاعر على البنية الدائرية التي تبدأ وتنتهي بنفس الجملة، فيتحقق بذلك شرط «الانفتاح» الفني؛ فالنهاية ليست ختامًا بل عودة إلى البدء. وهكذا يتحوّل النص إلى دائرة حياة تتجدد وتبعث الأسئلة بدل الإجابات.
كما نلمح في البناء الأسلوبي توظيفًا ذكيًا للجناس بين أحزان / خزان ونبضة / قبضة، ما يمنح النص موسيقى داخلية تنسجم مع إيقاع المقاومة والتمرد الذي يهيمن عليه.
خاتمة
نص «القصيدة» تجربة مفتوحة على التأويل والدهشة. فيها يتحول الشعر إلى مرآة للوعي الإنساني، حيث المقاومة ليست فعلًا سياسيًا فحسب، بل فعلًا جماليًا وروحيًا يعيد للإنسان كرامته وحقه في الوجود.
لقد نجح يعقوب أحمد يعقوب في صياغة نصٍّ يتنفس الشعر والفكر والفن معًا، وجعل من كل قارئ شريكًا في إنتاج المعنى، لتبقى «القصيدة» فعلًا مفتوحًا لا ينتهي.
إعداد مجلة النبراس الأدبية والثقافية — بإشراف محمد دويدي.
#مجلة_النبراس #يعقوب_أحمد_يعقوب #نص_القصيدة #نقد_أدبي #شعر_حر #نص_مفتوح #ثقافة #أدب #فاطمة_سعد_الله #غسان_كنفاني #رجال_في_الشمس
عظيم ما خطته أناملك من جمال ورقي في الكلمات ورونق وإبداع في المعني، أستاذة فاطمةسفاطمة الله
ردحذفأنرت أستاذ مجلتك، حبذا لو تركت توقيعكم باسمك، كي يتسنى لنا أخذ فكرة عن زوار ورواد المجلة
حذف