القائمة الرئيسية

الصفحات

جاري تحميل التدوينات...

تحليل شامل لقصيدة لا تصالح: تحفة أمل دنقل الخالدة


دراسة شاملة تجمع بين العمق التحليلي والجمال الأدبي


أمل دنقل


اللوحة الأولى: استهلال من أعماق التراث

لا تصالحْ!
.. ولو منحوك الذهبْ
أترى حين أفقأ عينيكَ،
ثم أثبِّتُ جوهرتين مكانَهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تُشترى:
ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،
حسُّكما ـ فجأةً ـ بالرجولةِ،
هذا الحياء الذي يكبت الشوقَ.. حين تعانقُهُ،
الصمتُ ـ مبتسمين ـ لتأنيبِ أمِّكما..
وكأنكما ما تزالان طفلين!
تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي ـ بين عينيك ـ ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَ..
تلبس ـ فوق دمائي ـ ثيابًا مطرَّزَةً بالقصبْ؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكنّ خلفك عارَ العربْ..
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرَبْ!

النسيج الفني: تشريح البنية والإيقاع

تبنى القصيدة على عشر مقاطع، في إشارة واضحة إلى "الوصايا العشر" التي أوصى بها كليب لأخيه. كل مقطع يبدأ بفعل نهي قاطع، متبوعاً بحرف شرط يعدد تنازلات المصالحة المرفوضة.

لا تصالحْ على الدمِ.. حتى بدمْ!
لا تصالح! ولو قيل رأسٌ برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌّ؟
أقلبُ الغريبِ كقلبِ أخيكَ؟!
أعيناهُ عينا أخيكَ؟!
وهل تتساوى يدٌ.. سيفُها كان لكْ
بيدٍ سيفها أثْكَلك؟
سيقولون:
جئناك كي تحقن الدمْ..
جئناك. كُنْ ـ يا أميرُ ـ الحَكَمْ
سيقولون:
ها نحن أبناء عمْ.
قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومةَ فيمن هلَكْ.
واغرسِ السيفَ في جبهةِ الصحراءِ..
إلى أن يجيبَ العَدمْ.
إنني كنت لكْ
فارساً،
وأخاً،
وأباً،
ومَلِكْ!

الصورة الشعرية: مأساة اليمامة

لا تصالحْ..
ولو حَرَمَتْكَ الرقادْ
صرخاتُ الندامةْ.
وتذكَّرْ..
(إذا لانَ قلبُك للنسوةِ اللابساتِ السوادْ، ولأطفالهن الذين تخاصمهم الابتسامةْ)
أنّ بنتَ أخيك (اليمامة)
زهرةٌ تتسربل ـ في سنوات الصبا ـ بثياب الحداد
كنتُ، إن عدتُ:
تعدو على دَرَجِ القصر،
تمسك ساقيَّ عند نزولي..
فأرفعها ـ وهي ضاحكةٌ ـ
فوق ظهر الجوادْ.
ها هي الآن.. صامتةٌ
حرمتها يدُ الغدرِ:
من كلمات أبيها،
ارتداءِ الثياب الجديدةِ،
من أن يكون لها ـ ذات يوم ـ أخٌ!
من أبٍ يتبسَّم في عرسها..
وتعودُ إليه إذا الزوجُ أغضبها..
وإذا زارها.. يتسابق أحفادُه نحو أحضانهْ،
لينالوا الهدايا..
ويلهوا بلحيته (وهو مستسلمٌ)
ويشدُّوا العمامةْ.
لا تصالح!
فما ذنب تلك اليمامةْ
لترى العشَّ محترقًا.. فجأةً،
وهي تجلس فوق الرماد؟!

القناع الشعري: حوار الماضي مع الحاضر

تستخدم القصيدة تقنية "القناع الشعري"، حيث يختفي صوت الشاعر المعاصر وراء صوت الشخصية التاريخية (كليب). هذا يخلق "معادلاً موضوعياً" يربط بين مأساة الغدر الفردي في الماضي ومأساة الهزيمة الجماعية في الحاضر.

لا تصالحْ،
ولو توَّجوك بتاج الإمارةْ.
كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ..؟
وكيف تصير المليكَ..
على أوجُهِ البهجةِ المستعارةْ؟
كيف تنظر في يد من صافحوكَ..
فلا تبصر الدمَ..
في كل كفْ؟
إن سهمًا أتاني من الخلفْ..
سوف يجيئُكَ من ألفِ خلفْ.
فالدم ـ الآن ـ صار وساماً وشارةْ
لا تصالحْ،
ولو توَّجوك بتاج الإمارةْ.
إن عرشَكَ: سيفٌ
وسيفَكَ: زيفٌ
إذا لم تزنْ ـ بذؤابته ـ لحظاتِ الشرفْ،
واستطبت الترفْ.

الانزياح الأيديولوجي: تجاوز السيرة إلى الرمز

رغم استعارتها للحكاية التراثية، فإن القصيدة لا تكررها بحذافيرها. فهناك "انزياح" مقصود؛ فبينما انتهت السيرة بانتصار الزير، تظل القصيدة معلقة في لحظة النهي.

لا تصالحْ،
إلى أن يعودَ الوجودُ لدورته الدائرةْ:
النجوم.. لميقاتها
والطيور.. لأصواتها
والرمال.. لذراتها
والقتيل لطفلته الناظرةْ.
كل شيء تحطم في لحظة عابرة:
الصبا، بهجةُ الأهلِ، صوتُ الحصانِ، التعرُّفُ بالضيفِ، همهمةُ القلبِ حين يرى برعماً في الحديقة يذوي، الصلاةُ لكي ينزل المطر الموسميُّ، مراوغةُ القلبِ حين يرى طائرَ الموتِ وهو يرفرفُ فوق المبارزة الكاسرةْ. كلُّ شيءٍ تحطَّم في نزوةٍ فاجرةْ.
والذي اغتالني: ليس ربّاً..
ليقتلني بمشيئتهْ،
ليس أنبل مني.. ليقتلني بسكينتهْ،
ليس أمهر مني.. ليقتلني باستدارتِهِ الماكرةْ.
لا تصالحْ،
فما الصلح إلا معاهدةٌ بين ندَّينْ..
(في شرف القلب)
لا تُنتقَصْ
والذي اغتالني مَحضُ لصْ
سرقَ الأرضَ من بين عينيَّ
والصمتُ يطلقُ ضحكته الساخرةْ!

الخاتمة: الوصية التي لم تنته

لا تصالحْ،
ولو وقفت ضدَّ سيفِكَ كلُّ الشيوخْ،
والرجالُ التي ملأتها الشروخْ،
هؤلاء الذين يحبون طَعم الثريدْ، وامتطاء العبيدْ،
هؤلاء الذين تدلت عمائمُهم فوق أعينهم،
وسيوفُهم العربيةُ قد نسيتْ سنواتِ الشموخْ.
لا تصالحْ،
فليس سوى أن تريدْ..
أنت فارسُ هذا الزمان الوحيدْ،
وسواك.. المسوخْ!
لا تصالحْ
لا تصالحْ!
القاهرة. نوفمبر. 1976

ملحق: الشاعر أمل دنقل

هو الشاعر المصري أمل دنقل (1940 - 1983)، الذي نشأ في صعيد مصر (قرية القلعة، قنا)، حيث تشرب من عالم والده الأزهري مخزوناً لغوياً أثرى قاموسه الشعري. عُرف عن دنقل تمسكه بجذوره العربية في وقت انجرف فيه كثير من معاصريه نحو التأثر بالميثولوجيا الغربية.

ينتمي دنقل إلى جيل تأثر بعمق بأحلام المد القومي العربي. كانت هزيمة 1967 بمثابة الصدمة الوجودية التي شكلت وعيه الناقد. لكن بصيرته الشعرية تنبأت بمآلات أخرى حين رأى مبادرات السلام المنفرد تلوح في الأفق، فكتب "لا تصالح" في نوفمبر 1976، أي قبل زيارة السادات للقدس بعام كامل.

قضى دنقل سنواته الأخيرة في صراع مرير مع المرض، دون أن تضعف قريحته، كما يتجلى في مجموعته "أوراق الغرفة 8". رحل في مايو 1983، تاركاً إرثاً شعرياً يحمل شعلة المقاومة والكرامة.

تعليقات

التنقل السريع