في زمنٍ تتهاوى فيه الحدود بين الأمم، وتتشابك الثقافات عبر الشاشات الصغيرة التي اقتحمت كل بيت، أصبح سؤال الهوية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى: من نحن في هذا العالم المتداخل؟ وأين يقف الإنسان العربي والمسلم وسط هذا السيل الجارف من العولمة؟ هل نحن مجرّد متفرجين على مسرح العالم، أم أننا ما زلنا نحمل في داخلنا تلك البذرة القادرة على التميّز والإبداع والانتماء؟
إنّ المفكّر المغربي الراحل محمد عابد الجابري كان من أبرز من تصدّى لهذا السؤال، مؤمنًا بأنّ الهوية ليست قيدًا على العقل، بل طاقة متجددة تسمح لنا بفهم ذواتنا وبناء مستقبلنا. لقد تعامل مع موضوع الهوية لا كمسألة تراثية جامدة، بل كمشروع نقدي حيّ يربط الأصالة بالمعاصرة، ويجعل من الفكر أداةً للتحرّر لا للتقوقع. للاطلاع على قراءة أعمق عن مفهوم الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي يمكن الرجوع إلى مقالنا "الأصالة والمعاصرة في الثقافة العربية".
الهوية المركبة: لا أصالة بلا معاصرة
ينطلق الجابري من فكرة جوهرية: الهوية العربية الإسلامية ليست كيانًا مغلقًا أو جوهرًا ثابتًا، بل هي تركيبٌ تاريخيّ حيّ. فهي تتكوّن، بحسبه، من ثلاثة أنساق معرفية كبرى تشكّلت عبر قرون من الفكر العربي:
- البيان: عالم اللغة والبلاغة والنص.
- البرهان: عالم العقل والمنطق والفلسفة.
- العرفان: عالم الروح والتصوف والمعرفة الباطنية.
العولمة كإطار لا كمحتوى
يحذّر الجابري من الخلط بين العولمة بوصفها إطارًا، وبينها بوصفها محتوى ثقافيًا. فهو يرى أنّ العولمة، كإطار، تعني الانفتاح على التكنولوجيا والمعرفة والأسواق والاتصال الإنساني، وهي معطيات لا غنى عنها لأي أمة تطمح إلى النهوض. لكن الخطر يكمن في أن يتحوّل هذا الإطار إلى محتوى يحمل قيمًا غريبة عن ثقافتنا: قيم الاستهلاك المفرط، والنفعية المادية، وتفريغ الإنسان من روحه الجماعية. يمكن للقارئ الاطلاع على مقالة موسّعة حول تأثير العولمة على الثقافة العربية هنا.
العقل كأداة للمقاومة: نقد العقل العربي
مشروع الجابري الأشهر، "نقد العقل العربي", لم يكن مجرد تحليل للتراث، بل كان صرخة تحرّر فكري. لقد آمن أن لا مواجهة للعولمة من دون عقل نقدي واعٍ يراجع بنيته الثقافية. فالعقل الذي يكرّر لا يستطيع أن يبدع، والأمة التي تعيش على أفكار الماضي لا يمكن أن تبني المستقبل. دعا الجابري إلى ما أسماه بـ القطيعة الإبستمولوجية — أي القطيعة المعرفية مع طرائق التفكير التي كبّلتنا قرونًا — لننطلق نحو إنتاج فكرٍ عربيّ جديد، لا ينكر تراثه ولكنه لا يقدّسه، بل يفكّكه ليفهمه ويطوّره.
نحو هوية مستقبلية
لم يضع الجابري أمامنا خيارين متناقضين: الانغلاق أو الذوبان. بل فتح أمام الفكر العربي طريقًا ثالثًا، طريق الهوية المستقبلية — الهوية التي تستمدّ جذورها من الماضي، لكنها تنمو في تربة الحاضر وتطلّ على المستقبل بثقة.
في زمن العولمة، تصبح الهوية مشروعًا مستمرًا لا وثيقة ميلاد. هي ليست شعارًا نرفعه، بل فعلًا يوميًا نعيشه ونبنيه عبر الفكر والإنتاج والمشاركة الحضارية. وحين نفشل في صياغة هويتنا بأنفسنا، فإننا، كما يقول الجابري، نُترك على هامش التاريخ، يكتبنا الآخرون بدلًا من أن نكتب نحن أنفسنا.
إعداد مجلة النبراس الأدبية والثقافية — بإشراف محمد دويدي.
#مجلة_النبراس #محمد_عابد_الجابري #هوية #عولمة #فكر_عربي #ثقافة #فلسفة #نقد_العقل_العربي #أدب #تنوير
تعليقات
إرسال تعليق