القائمة الرئيسية

الصفحات

جاري تحميل التدوينات...

حرف من طين لايذوب — قصة قصيرة بقلم لينا السعدي


قصة عن التحول الداخلي والعلاقة بين الأم وابنتها

فتاة واقفة بجانب نافذة خافتة تعبر عن التصور الرمزي للطين والضوء في قصة حرف من طين لا يذوب
صورة رمزية تعبّر عن شخصية ورد: الطين، العناد، والضوء.

حرف من طين لايذوب
لم تكن ورد فتاةً سهلة. كانت تُشبه الحرف حين يُنقش على حجرٍ لا يلين، لكنه يبقى. في طفولتها، كانت تُحدّق في الأشياء كأنها تُريد أن تُعيد خلقها. لا تضحك كثيرًا، ولا تبكي أمام أحد. عنيدة، كأنها خُلقت من مادةٍ لا تعرف الذوبان.

أمّها، نرجس، كانت تُحبها كما تُحب الأرض المطر، وإن تأخّر موعده. حاولت أن تُهذّب حوافّها، أن تُعلّمها كيف تُصغي، وكيف تُسامح، وكيف تُحب دون أن تُخاصم. لكن ورد كانت تُقاوم كل محاولة، تُغلق بابها، وتكتب على جدران غرفتها كلماتٍ غامضة، كأنها تُخاطب أحدًا لا يعيش في هذا العالم.

في المدرسة، كانت تدرس حين تشاء، وتغيب حين لا ترى جدوى. تُجيد الرياضيات، لكنها تكره القواعد. تُحب الفيزياء، لكنها تُخاصم التاريخ. كانت تُريد أن تفهم كيف يعمل الكون، لا كيف سار الناس فيه.

نرجس كانت تُراقبها بصمتٍ متعب، تحاول أن تُعيد ترتيب الأبجدية الغريبة التي كُتبت بها ابنتها. كانت تشعر أنها تحفر في الطين بأظافرها، تبحث عن شكلٍ لا يريد أن يتكوّن. وكل مساء، كانت تُحدّث نفسها: «ربما غدًا»، لكن الغد كان يأتي بالعِناد ذاته، بالغموض ذاته.

ثم جاءت الأيام التي لا تُشبه ما قبلها.

في صباحٍ خريفيٍّ باهت الضوء، مرضت نرجس. لم يكن مرضًا يُرى، بل تعبٌ يتسلّل إلى الروح. بدأت تنسى الوجوه، تتعب من المشي، وتُحدّق في الأشياء كأنها تراها للمرة الأولى.

ورد، التي كانت تُخاصم المسؤولية، وجدت نفسها تُحضّر الطعام، تُنظّف البيت، تُذاكر وتعمل، وتُراقب أمها وهي تذوب كشمعةٍ تهب ضوءها الأخير.

وفي مساءٍ صامت، بينما كانت تغسل الصحون، شعرت ورد أن الماء يُعيد تشكيلها، لا الأطباق. قطرات الماء كانت تتسلل بين أصابعها كذكرياتٍ لا تُمسك، لكنها تترك أثرها. في تلك اللحظة، فهمت أن العناد لا يُنقذ أحدًا، وأن الطين لا يصير شكلًا إلا إذا قَبِل أن يُعاد تشكيله.

تلك الليلة، جلست على طرف سرير أمها. كانت نرجس نصف غافية، يعلو صدرها ويهبط كأغنيةٍ قديمة. قالت ورد بصوتٍ خافت: «كنت أظن أنني أهرب منكم، لكنني كنت أهرب من نفسي.» لم تُجب نرجس، لكنها مدّت يدها، ولم تسحبها. كانت تلك اليد الصغيرة الضعيفة أول جسرٍ تبنيه ورد نحو الضوء.

من تلك اللحظة، بدأت تتغيّر. لا بسرعة، بل كالماء حين يُعيد تشكيل الحجر. بدأت تُحادث أمها، لا لتُجادل، بل لتفهم. بدأت تكتب، لا لتهرب، بل لتُشفى. وبدأت تُحب، لا لتضعف، بل لتقوى.

كل مساء، كانت تُحضّر كوب شاي، وتضعه أمام أمها. لم يكن يبرد بعد ذلك.

وفي مساءٍ هادئ، قالت نرجس: «كنتِ السؤال الذي لا يُجاب بالكلمات، والآن صرتِ الجواب الذي يُشبه الدعاء.»

ابتسمت ورد وقالت: «لن أكون سهلة، لكنني صرت قابلة للضوء.»

وهكذا، لم تنتهِ القصة، بل بدأت من جديد. ورد لم تصبح ملاكًا، لكنها أصبحت سندًا — ابنةً تُشبه الضوء حين يُولد من الطين، وحين يُكتب العناد كأبجديةٍ لا تُنسى.

إذا أحببت قراءة المزيد من القصص التي تحمل **الرمزية والعمق العاطفي**، يمكنك الاطلاع على:
1. قصّة "حياة مثل ورقة خريف" — رحلة في الذكريات والحنين
2. تفاوضوا مع الله في بقرة" — تأملات شاعرية للشاعر خالد فريطاس
3. ورم (1)" — قصة مأمون أحمد مصطفى في مواجهة الألم والانعزال


قصة قصيرة
بقلم / لينا السعدي

لمحة مجلة النبراس

تكشف هذه القصة عن قدرة لينا السعدي على بناء شخصية ورد التي تتحوّل تدريجيًا من صلابة الطين إلى النور واللين. اللغة رمزية ومؤثرة، تستخدم الماء والطين والضوء كمجازات للنضج الداخلي والمصالحة. العناد يتحول من عائق إلى نقطة قوة حين يُعيد تشكيله بالحب والمسؤولية.

إعداد مجلة النبراس الأدبية والثقافية — بإشراف محمد دويدي.


الكلمات المفتاحية: قصة قصيرة، أدب عربي، لينا السعدي، التحول الداخلي، العلاقات الأسرية، الرمزية في الأدب

أنت الان في اول موضوع

تعليقات

التنقل السريع