يُعدُّ مفدي زكرياء (1908-1977) أحد أبرز الأعلام الشعرية والفكرية في الجزائر والعالم العربي خلال القرن العشرين. لم يكن شاعرًا عاديًا، بل كان حامل لواء الثورة الجزائرية بشعره، ومهندسًا لوعيها الوطني بفكره، وناقل قيمها الإنسانية برسالتها. لم ينفصل إبداعه الأدبي عن مسيرته النضالية، فكانت قصائده بمثابة بيانات ثورية تُتلى في الخفاء والعلن، ووقائع تاريخية تُسجل ملاحم الشعب، ومرجعيات فكرية تُشكل الهوية الوطنية. هذه الدراسة تحلل شخصية مفدي زكرياء وإنتاجه الأدبي، وتتتبع مسيرته الحياتية، وفحص خطابه الشعري في سياقه التاريخي، وتحليل الرموز والثيمات، وتقييم إرثه الثقافي والسياسي.
الفصل الأول: السياق التاريخي والبيئة التكوينية
الجزائر تحت النير الاستعماري
ولد زكرياء بن سليمان، الملقب بمفدي، في 12 يونيو 1908 في بلدة بني يزقن بغرداية، في بيئة امتزجت فيها الثقافة الأمازيغية المحلية بالإسلام الإباضي والعربي. جاءت ولادته في خضم الاحتلال الفرنسي للجزائر (1830) الذي انتهج سياسة استئصالية تجاه الهوية الجزائرية، عبر التجهيل، ومصادرة الأراضي، وطمس اللغة العربية والثقافة الإسلامية، وفرنسة المجتمع. هذا السياق القمعي شكل الحاضنة الأولى لوعي مفدي الوطني.
المؤثرات التكوينية المبكرة
تلقى مفدي تعليمه الأول في الكتاتيب المحلية، فحفظ القرآن وتشرب اللغة العربية الفصحى، ثم انتقل إلى تونس حيث درس في جامعة الزيتونة، المنارة العلمية التي كانت معقلاً للمقاومة الفكرية ضد الاستعمار. Exposure to التيارات الفكرية الإصلاحية والوطنية وسّع من آفاقه وجعله يدرك أن معركة التحرير هي معركة ثقافية إلى جانب كونها عسكرية.
الانخراط في الحركة الوطنية
عاد مفدي إلى الجزائر ليلتحق بالحركة الوطنية مبكرًا. انضم إلى "نجم شمال إفريقيا" ثم "حزب الشعب الجزائري" وحركة "انتصار الحريات الديمقراطية". تعرض للاعتقال والسجن عدة مرات بسبب نشاطه السياسي ومناهضته للاستعمار، وقد صقلت هذه الفترات موهبته، حيث نظم بعض أروع قصائده بين جدران الزنازين.
الفصل الثاني: الخطاب الشعري والثورة التحريرية
الشعر كسلاح
في ظل القمع الشديد للإعلام والنشاط السياسي، أصبح الشعر وسيلة اتصال جماهيرية فعالة. استغل مفدي زكرياء قوة الكلمة لتعبئة الهمم، وتثبيت قلوب المجاهدين، وكشف جرائم المستعمر، ونقل صوت الجزائر إلى العالم. قصائده مثل "فداء الجزائر" و"الشهيد" و"العار" كانت تُنشر سرًا وتُنقل شفاهة.
تحليل قصيدة "قسماً"
تُعدُّ قصيدة "قسماً" (1956) التي أصبحت النشيد الوطني الجزائري، النموذج الأكمل لشعر مفدي الثوري. البناء الدرامي للقصيدة يبدأ بالقسم بالتضحية والدم، مرورًا باستحضار التاريخ المجيد ووصف المأساة، وصولاً إلى التحدي والوعيد. لغة قوية، مباشرة، ومحملة بالرمزية الدينية والوطنية، تخلق خطابًا حماسيًا يخاطب العواطف والعقل في آن واحد.
الفصل الثالث: بناء الهوية الوطنية
عانى الاستعمار الفرنسي من تشويه الهوية الجزائرية. واجه مفدي هذا الطمس بمشروع شعري وفكري لبناء هوية وطنية متكاملة: أمازيغية الجذور، عربية اللسان، وإسلامية الانتماء. لم ير مفدي تناقضًا بين هذه المكونات، بل رآها نسيجًا واحدًا يشكل الشخصية الجزائرية.
دور اللغة العربية
كان إصرار مفدي على الكتابة بالعربية الفصحى عملاً مقاوماً بحد ذاته، جاعلاً من شعره منبرًا لإحياء اللغة العربية وإثبات قدرتها على التعبير عن هموم العصر وملاحم الثورة.
استحضار التاريخ
لجأ مفدي إلى استحضار الشخصيات والأحداث التاريخية لربط الحاضر بالماضي، وإثبات استمرارية النضال الجزائري عبر العصور، وبناء جسر من الشرعية التاريخية للثورة التحريرية.
الخاتمة
مفدي زكرياء لم يكن مجرد شعلة شعرية، بل كان مشروعًا ثقافيًا متكاملاً. شاعر، مناضل، مؤرخ شعري، ومهندس هوية. لغته القوية وصوره المبتكرة وإيمانه الراسخ بعدالة قضيته حوّل الشعر إلى "إلياذة" حية تسجل ملحمة شعب وتخلدها. يبقى شاهدًا على أن الفن الأصيل لا ينفصل عن قضايا أمته.
إعداد مجلة النبراس الأدبية والثقافية — بإشراف محمد دويدي
تعليقات
إرسال تعليق