القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

جنازة على مفترق!.. قصة قصيرة بقلم: رويدا سليمان/ سوريّا.

جنازة على مفترق!.. قصة قصيرة بقلم: رويدا سليمان/ سوريّا.

جنازة على مفترق!

  ظهرية يوم صيفي من شهر آب 2019، الباب مفتوح.. قبالتي تتدرج هضبة كبيرة بتكاتها المكسوة بمئات أشجار الزيتون.. رياح غربية مشبعة برطوبة البحر تشاكس تلك الأشجار المعمرة فتتلقفني مباشرة وتلفحني ببخارها المتوسطي النائم بين ذراتها.
فجأة، زمجر في الأجواء صوت منشار كهربائي مقتحما ذاك الهدوء الذي كنت أتنعم به بعد تخلصي من صخب المدينة الذي لا يرحم!
تتسمر عيناي على زيتونة تتهاوى رويدا.. رويدا… وبقدر ما جمدني المشهد، تسارعت دقات قلبي فأغمضت عيني كي أتفادى مشهد سقوطها..و سرعان ما تدحرجت التداعيات فكان لطريق القرية النصيب الأكبر، واستسلم اللاوعي تاركا لنفسه العنان…
رأيت أهل قريتنا القاصدين مدينة اللاذقية لقضاء حوائجهم، حيث كان يتوجب علينا اجتياز مسافة طويلة حتى نصل إلى المفترق كي نحظى بعدها بركوب إلى المدينة، نظرا لقلة وسائط النقل وقتذاك، فكنا نقف عند تقاطع طريق قريتنا مع القرى المجاورة بعد أن نسلك الدرب من بيدرها الساحر الممتد وسط كروم التين والزيتون التي لا أحد يخمن عمرها بالضبط.. وثائب أن سمي هذا المفترق بإسم شجرة لها أثر محفور في ذاكرتي، لطالما حيرتني التسمية والشجرة لم يكن لها أي أثر!
من شدة عجبي.. تجرأت كطفلة وديعة وذكية أن أسألهم عنها مرات كثيرة، إنها شجرة (العرموط) أي الإجاص وهو الإسم المحلي لها، فكنت كلما نصل المكان ولا أجدها ألح في السؤال:
أمي.. أبي.. أختي أين شجرة العرموط؟
  كانوا يكتفون بضحكاتهم الفرحة بسؤال طفلتهم المدللة و بتمسيد شعرها دون جواب!
ومضت بنا السنوات ومازلنا نقف تحت أشجار الزيتون متنعمين بفيئها ننتظر الباصات القادمة من القرى المجاورة.
كانت معاناة مغلفة برائحة الأرض والطيون، والتين، والصبار، والزيتون، ولن ننسى شجيرات العليق الشوكي (الديس) بزهورها البيضاء الساحرة وثمارها الناعمة اللذيذة وقد امتدت سياجا على تخوم الطريق، كانوا جوقة ربانية تخفف عنا وحشة و تعب الدرب الطويل…
كان ذلك في أواسط الثمانيات من القرن المنصرم حيث غزو إسمنتي عشوائي يجتاح سورية، فلا يكاد يمر يوم إلا وحلت بناية هنا وأخرى هناك محل الأراضي الزراعية والحقول الغناء التي لم تستطع كل الشتاءات القاسية وشهور الصيف الحارقة أن تنال منها، لكن أيادينا (البيضاء) استطاعت وبزمن قياسي!

  كنت أعشق طريق قريتنا ومشاويرنا عليها في ليالي الصيف المقمرة وتسللنا إلى كروم التين لنسرق بعضا من ثمارها الطيبة.. بينما العشاق غارقون في همساتهم بعد أن ذوبتهم نار الغرام وحماوة الصبا..غافلين عن الأعين المتربصة وفضول البعض كعادة أهل الريف وطبعهم…

  كنت أمقت الاستيقاظ في وقت مبكر..و لولا صراخ أمي المتواصل لفاتني العديد من أيام المدرسة وذلك بسبب السهر لوقت متأخر من الليل.. عشقي للسهر والليل كان غريبا.. لذا كنت أعاني من مزاجي المتعكر دائما في ساعات الصباح الأولى، لكن مسيري عبر طريق القرية الساحر كان يلطفه ويمدني بالطاقة الإيجابية.
كنت أرى بأم العين أثناء الذهاب والإياب تلك التغيرات التي كانت تحدث، فيضربني الإحباط، حينها يكون باص النقل الداخلي الأصفر والطويل قد وصل مكتظا كما العادة ليبدأ عندها الصراع لتتدبر لنفسك مكانا يليق بآدميتك.. لكن عبثا! فيصبح التفكير في كيفية النزول عندما تصل محطتك معركة ضارية!
جزء تاني
  وفي ظهرية صيفية لاهبة وأصوات الزرازير تملؤ الفضاء، كان للإحباط طعم آخر… فبينما كنت أتعجل الوصول إلى المفترق لأتفيأ تحت شجرة الزيتون التي كانت تتقدم الكرم ريثما يصل (الميكرو باص) أو الباص الأصفر، كان ضوء النهار يسطع بشكل سافر غير مألوف كلما كنت أقترب، حتى نظاراتي الشمسية لم تحمني من وهجه المزعج الأمر الذي أربكني فتوقفت ألهث، و كالعادة ودون وعي تقدمت نحو الشجرة التي كانت على زاوية الكرم من جهة اليمين، والتي كان ينتصب قبالتها من جهة اليسار ذهابا (حاووظ الموي) خزان الماء الذي ما يزال رابضا حتى يومنا هذا.. كان هدير المياه داخله في الليل الحالك على وجه الخصوص يصيبني بالهلع..فكنت اتكمش بثوب أمي أو أختي كلما مررنا بالقرب منه ريثما نتجاوزه.. كان ذلك في الصغر.. لكن ظل لصوته وحشة تجتاحني كلما دار شريط تلك الليالي!
وعند أول خطوة صوب الزيتونة المرومة صدمني شكل الأرض، خلعت النظارات أتحقق، إعترتني قشعريرة و أصابني دوار حتى كدت أفقد توازني، تراجعت قليلا نحو الإسفلت أنظر إلى ما حولي و أتساءل:
  أين أنا.. هل أخطأت الطريق.. أين كروم الزيتون المترامية؟!
  فتجيبني بوقاحة آثار دواليب سيارة كبيرة معالمها ماتزال على التراب المقلوب بوحشية، والذي تدفقت رائحته إلى رئتي لتنتشلني من حمى تساؤلاتي، في تلك اللحظة واجهتني بقايا جذوع تتدلى منها جذورها الطويلة، والتراب الرطب الدافئ عالقا بها ما يزال، كمن يرفض أن يقطع حبل سرته عن أمه…!
كانت قد بعثرت بفوضى جاهلة.. تصرخ كنساء اغتصبن لتوهن، يتوسلن المارين أن يغضضن الطرف.. فعفتهن كانت مضرب الأمثال!

  لم يستطع الباص الأصفر الطويل، الذي وصل أخيرا و قد استباح صوت زموره المكان، أن يلفت نظري وسمعي إليه..فغادرني مكتظا بما يحمل من أوجاع وأحلام تضيع في وتين زحمته..غادرني و تركني وحيدة على ذاك المفترق أفتش عن تلك الشجرة التي لم أرها يوما طيلة حياتى كما كل أقراني، لكنها كانت مغروسة في حنايا وجداني، وعن الزيتونات اللاتي فيأننا ولطفن حرارة صيفنا عمرا طويلا…!
  عدت أدراجي مسربلة بشعور الفقد لغال، أردد و الصدى يرتد إلى شغافي:
  أمي.. أبي.. أختي..
  أين شجرة العرموط؟!
  وأنا أحث الخطا هاربة من صدمة وهم أو ربما وحش يلاحقني، استوقفني صوت إمرأة عجوز لم يكن غريبا على مسمعي:
تهربين! أحس بك بنيتي..و ليتني لم أعش حتى أرى ما رأيت…!
آه بنيتي…كم افتقدتها حين قطعها منذ سنين جارنا المتهور أبو محمود، كانت و البئر الذي بجانبها ملاذا لنا في أيام المواسم..و كم أكلنا من ثمارها الحلوة بعد انحناء ظهورنا طيلة النهار، كان سكيرا بطبعه..كان كلما يشرب كأسا من الخمر (العرق) يكسر كل ما يأتي في طريقه.. وفي أحد الأيام قطعها في لحظة سكر وطيش!
كانت تلك العجوز أم صديقة الطفولة التي لها مودة خاصة في قلبي لحكمتها ونفسها الرضية.. وها هي الآن تظهر أمامي في لحظة قدرية و أنا التي حسبتها فارقت الحياة كما قيل لي، فالظروف باعدت بيني وبين صديقتي.. كما عادتها الأيام!
وتتابع بصوتها الباكي المتحسر:
وها هم اليوم يا بنيتي.. يقضون على ما تبقى، لا أعلم وحق الله.. هل هذا سيجلب لنا رزقا أكثر وراحة بال أكثر.. الله يعطينا خير الأيام الجايه!
  من تقصدين يا خالتى تلك التي تفتقدينها و قد قطعها؟! أسألها.
  بنيتي… عن شجرة العرموط أتحدث!
  بجانب البئر هناك..آهااااا! ربما كنت صغيرة حينها لذلك لا تتذكرينها..و من حسن حظك أنك لم ترينها ولم تأكلي من ثمرها.. وإلا لكانت غصتك أكبر!

  في تلك اللحظات لم أستطع الجزم بكنه مشاعري، هل أفرح بأن ما كنت أسأل عنها دائما وأتوق لرؤيتها كانت بالفعل حقيقة وليست وهما، أم أحزن لأني لم أكحل عيني بمرأها ولم أتذوق حلاوة ثمارها؟
  كان الأمر أعمق من مجرد رؤية وتذوق أو اكتشاف وجود شجرة كانت حقيقة…!

 

}