القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

بـنـيـة التكـرار في ( أنا واحد وأنت تتكرر) بقلم: علي الاسكندري

 بـنـيـة التكـرار



في ( أنا واحد وأنت تتكرر)

           علي الاسكندري                                   

قد تكون نصوص الشاعر مهدي القريشي معزولة عن التداول الإعلاني نسبيا ومحجوبة عن خصاصة الإعلام السارح في برازخ الذاكرة الشعبية الفطرية ، شأنه في ذلك شأن الكثير من الأعمال والنصوص والمواهب التي بقيت مطرودة من جنان النقد والأضواء الكاشفة ، ومن المؤكد بأن تلك الأعمال لا تحتاج إلى تبشير بقدر حاجتها إلى سراج مـُـؤتـَمـَـن ينير لها سبل التوصيل والتواصل مع الآخر الذي بقي هو الآخر تحت قـيـمـومة ذلك الأعلام ، ومجموعـته الشعرية  ( أنا واحد أنت تتكرر ) الصادرة عن دار الشؤون الثقافية تبتدئ وفي غـرّتها إهداء ثلاثي في ص4( إلى الأم لميعة ... أصيل ... شمس ) وتختم بـ ( رسالة مقفلة )وهو نص في ص90 يحمل هو الآخر الإهداء التالي ( إلى أصيل بعد ولادة صورتها الثانية شمس ) وهذا الإجراء هو تنشيط لذاكرة التلقي لكي لا تذهب بعيدا عن  إهداء نقطة الشروع في ص4 ، كما لا ننسى الإهداءات الأخرى في ( ص5، ص16 ، ص38 ، ص40 ) إضافة إلى ما ذكرناه ، ويكشف لنا هذا المذهب أن الشاعر قد عمد إلى تنصيص حزمة من وقائعه الشخصية وذكرياته الخاصة ورحـّـلها إلى فضاءات الفن الشعري ، بل إن نص (شجرة الخواء) وهو فاتحة نصوص المجموعة والذي حاز على أطول إهداء في المجموعة ، يوحي للمتلقي وكأنه شجرة العائلة التي ينتسب إليها الشاعر ، حيث يأتي الإهداء هكذا ( إلى أخي حسين .. الذي سبقني إلى الموت وترك وصاياه تبلل صباحاتنا بالأسئلة ، وإلى ابني علي .. الذي سبقه بأيام يقشط لعمه الطريق في الوحشة ويجفف خطوته بالرثاء ) ، وتعد الطريقة التي تعتمد على الخزين الذاكراتي الشخصي في بناء النص أسـهل وأيسر من الطرق التي تذهب إلى استدعاء الأساطير والموروثات والملاحم والثقافات الإنسانية وتهشيم بناها وإذابتها وبثها في مفاصل النصوص لتصبح نصوصا متفوقة على النص الراسخ الذي يتفيأ ظلال القداسة والموروث ، وهذا الطراز من النصوص يتسم بأنه نص مركب وكوني إذ غالبا ما تكون موضوعة الموت والحياة والخلود خصيصة ملازمة له ، كما أن مادته الرئيسية غالبا ما تكون هي المشهد الحياتي بعموميته ، بينما النصوص موضوعة القراءة ، فيعتمد في طريقة بناءها وتأثيثها على جزء من المشهد الحياتي العام الذي أشرنا إليه ، والذات المنتجة لذلك الخطاب هي جزء من المشهد الحياتي المذكور ، والجزء لايمكن أن يمـثــّـل الكل أو يختزله أو يحتويه ، وربما تخطــّى الشاعر هذا المضمار الضيق بعض الشئ من خلال لجوءه إلى استثمار قوة الفعل المضارع وطاقاته المشعة ومساحته الواسعة بالنسبة للأبعاد الزمنية الثلاث داخل نصوصه الشعرية ،وثـبـّـت من خلال ذلك الإجراء استمرارية الوقائع والصور المروية شعرا وأودعها في ذاكرة الحاضر القائمة أبدا ، ونسـتـدل على ذلك من خلال الفحص الدقيق والإحصاء البياني والذي أظهر لنا إستشراءا واسعا وانتشارا ملحوظا للأفعال المضارعة في هذه النصوص فقد أستـُخدم أكثر من خمسمائة فعل مضارع في عموم المجموعة في حين كانت حصة الفعل الماضي خــُمس هذا العدد فقط ، بل إننا نلاحظ أن ثلاثة نصوص طويلة نسبيا لاتحتوي بالمرة غير الأفعال المضارعة ، ويمكن العودة إلى الصفحات ( 90،57،49) في المجموعة لملاحظة ذلك ، كما أن عنوان المجموعة الرئيسي يحتوي على الفعل ( يتكرر ) وهو فعل مضارع كما يـُلاحظ ، إضافة إلى عنوانين رئيسيين من عناوين المجموعة تذهب نفس المذهب ، وأحسب أن ذلك كامن في العقل الباطن للشاعر ولم يخطط له البتة ، ولنأخذ مقطعا من احد نصوصه كنموذج دال ( تخون المنافي فأجترح برجا ترقص فيه ريح الشمال ، تضيق المنافي فأقترح ذاكرة تتسول فيها الخديعة ، ننفض أجسادنا من كلاب الفصاحة ) ص49 نص شموع الخضر ، ونرى تدافع الأفعال المضارعة في مستهل النص وهي سبعة أفعال في أربعة اسطر شعرية ، وهذا أمر حسن ، لكننا نعود إلى مسألة بناء النصوص واعتمادها على الخزين الذاكراتي كما ذكرنا ونفترض هنا ان الشاعر حاول أن يصنع أسطورته بنفسه وان يتفرد ولا يتكرر , من خلال توسله بالخزين الشخصي المذكور والمراهنة على تهشيم صوره وبناه وإعادة إنتاجها ..فنحن إذن وهذا الحال سنكون إزاء صور ونصوص معادة وقع فيها (الحافر على الحافر ) كما تفيد بذلك المقولة الشائعة ، وهو ما لا يريده الشاعر لمشروعه موضوع هذه القراءة , ذلك لأنه ومنذ الوهلة الأولى يلقي حجرا من العيار الثقيل في سكون بركة الذات المستقبلة لمدونته الشعرية ولخطابها المتعالي , والذي ازدحمت به شحنة العنوان الرئيسي (انا واحد وانت تتكرر ) والتي تكشف عن تمايز وتفاضل واضح في ترسيم الانا الراسلة لشفرة الخطاب الوارد ، وتقديمها وتفضيلها على الأخر المخاطب , ويأتي ذلك في شقين , الاول التدويني الذي يشير اليه المقطع الاول من العنوان المكتوب ( انا واحد ) حيث تحتل الذات المتحدثة خانة الرقم الأول في الأعداد , وتهيمن عليها ، كما يوحي هذا المقطع بندرة الذات ومنعـتها وعدم تجزئها وتكرارها قياسا بالآخر الوارد في المقطع الثاني ( وأنت تتكرر ) الذي يتماثل ويتشابه ويتكرر ويصبح رقما ملغيا غير مشار اليه وغير مدون في عدد التكرارات ، والشق الثاني البصري وهي قراءة بصرية تأويلية لمشهد غلاف المجموعة ، حيث تبدو جملة العنوان مفروقة إلى فضائين ، الأول ، الذي يحتضن الأنا الباثة لمتن الخطاب الصريح ثم التنقيط التنازلي التدرّجي والذي يضع المخاطب بعد فاصلة صامتة بالمستوى الأدنى وهو الفضاء الثاني . لكننا حين نعود إلى الصورة الشعرية الواردة في ص22 نص ( مرايا غير قابلة للتشويه ) م3 ونصه ( لكي لا أشعر بالوحدة ، غـلـّـفتُ جدران غرفتي بالمرايا ) نلحظ هنا أن الذات الشعرية تستنسخ نفسها وتكرر ملامحها وتنقض عزمها المــُـبيـّت لإنشاء نص مفارق ومغاير وخارج عن طاعة التماثل ، ويأتي التكرار هنا طبق الأصل وفقا لآلية عمل المرآة ، ولا يقتصر التكرار على الوجود الفيزيائي للذات بل يتسرب إلى فيزياء النص وكما مبين في النموذج التالي ( أنا من مدينة أكلت فاكهتها ونسيت اسمها تنام على ضفة الغراف ، كل أيامنا رمضان وكل نهاراتي عاشوراء ) ص41 نص " خطوتان باتجاه الجنون" ونلاحظ دلالات الجزء الأخير من المقطع الوارد والذي يفضي إلى الحرمان والجوع والحزن وهو قالب لفظي شائع يتداوله عامة الناس ولا مزيد عليه ، ولا نرى مثلبا بالرأي القائل إن شعرية مهدي القريشي تتبلور في ميدان الكثافة والاختزال والتقطيع الصوري وقصائد الصورة والتي تحتاج إلى خصوبة المخيلة وثراء اللغة والاستعداد النفسي للمغامرة والجنوح وهو ما يتوفر فعلا في هذه الشخصية الشعرية الصبورة التي لا تمل من الانتظار لاقـتـناص اللحظة الشعرية القادمة وهو ما لمسناه ويلمسه المواكب لنصوص الشاعر ومنجزه المتيـسـّر، بقي أن نقول .. كلما تـقدم الزمن في آلتهِ الهائلة وجريانه المتواصل ، تكررت الوجوه والنصوص والموجودات في هذا الكون ولا فرادة إلا للنص الذي كتبه الإنسان الأول في يوم ما . 

بـنـيـة التكـرار    في ( أنا واحد وأنت تتكرر) بقلم: علي الاسكندري