وسارة عتبة "عين الجربوع " للكاتب قدور بن مريسي قلم: سعدي صباح.
غالبا ما ينظر المرء عامة والمبدع خاصة بكامل عنفوانه إلى زمن لن يعود إلا من وحي الخيال الجامح... أو نزق الطفولة بنظرة وردية اللون ، يتوق من خلالها إلى الأماكن الآسرة أو الأشخاص ،بل يرقب في العودة إليها من خلال خياله الخصب ،فتجتاحه موجة دافئة من سعدة الطفولة التي لا تشيخ ولا تندثر ، مع أن الحنين إلى الماضي له جانب آخر عند الشخص العادي ،قد يستخضر مواقف مؤلمة قد تؤذيه ، بينما الشخص الذي ميزه الله بنعمة الخيال والموهبة ،وزبرج جنبات الماضي بكل بديع وجميل ...بدافع طفولة مشاكسة ،كما فعل الكاتب في ريعانه ،هنا الذكريات تكون جميلة في حياته ولا تسبب له أي قلق أو ندم ،كما تغذي قريحته وتؤثث لمتعة القارئ الذي تزي بزييهة ومشى على خطاه ،ولابد من العودة إلى الماضي لأخذ العبرة والخبرة ونستمر فيه لنعيش الحاضر بأفراحه وأحزانه ،إلى أن يصبح من الماضي الجميل، تتوارى كل الإحباطات والإنكسارات ، إلا الذكريات الجميلة فستظل تسكن وجدان صاحب التميز بلياقة الفكر والعقل والأحلام الطفولية المتجذرة في الموهوب خاصة ، الذكريات الجارحة فستضمدها السنون وترمضها ، فلا أحد ذلك الجيل الذهبي لم يرضع حب المدينة مع الحليب ...يوم كانت عبارة عن دشرة كبيرة شوهها المستدمر ككل المداشر والقرى ، وهاهو ابنها راح يناجي الأماكن والأشياء في زمن الريعان ،بالإعتماد على ذاكرته الخصبة ، ويعود بنا إلى زمن القلوب المتسعة ،يوم كانت المدينة الأم ترتدي وشاح القرميد الأحمر ،انطلاقا من جنان لعياد وصولا إلى جنان بالرياح ،متحسرا على القرميد الأحمر ...التحفة العمرانية التقليدية ... التي قضت عليها الإسمنت ،صيد العصافير في صباحات الصقيع ،يعاتب أم "سيسي "ساخرا من خبثها في الساقين ،و التي يرى صيدها ضربا من الخيال أو المعجزة، لأن الإستخبار يكمن في رجلها ،فتشعر بالخطر فتنجو وستظل هكذا عكس الطيور الأخرى الساذجة مثل سواق الإبل ، وينثني بنا إلى السباحة في الأزرق يومئذ... الذي تدثره سحابة من البعوض ومن غرائب الطفولة يبدو له سطحها مرآة مصقولة ، ويلوي على سيدي السبخاوي... المقبرة الوحيدة التي تضم أجداه من المدينة ،وستظل تبتلع من والأولين إلى يوم الدين ، ثم ينعطف بنا الى عين الوادي بأسلوبه الأدبي السلس الجميل ،"وينساب كالفضة السائلة لأعين الواردين الشاربين "ملتقى القوافل جنب الغدير ...حيث استراح الأمير ،البياضة وبركها حين يسقط المطر ،حي الوادي أين ترعرعت سليمى ...جل أرجاء المدينة وأنحائها،لقد سافرت معه والقارئ دوما في رحلة مستمرة بين ماضيه وحاضره ، وعلى جناح خياله بإمكانه أن يزور خلجان بكر لا تسكنها إلا الجنيات وهو في مكانه ،وفيه تقاطع بيني وبينه من حيث شغف البرية وقنص العصافير ،وحب الضواحي وما تزخر به من طير وزهر وشيح وبطمة وشجر ،ولدت في حجرها بعد سنة من تفجير الثورة المباركة ،بحي الشراربة ، إلى أن عدنا إلى المنبع والأصل بعد الحرية وصمت البندقية وبزغ الكاتب بعدمولدي بسنوات ،عدنا ككل العائدين إلى مرابع أجدادنا ،منبسطات الحبيل ،مناعة ،المعذر ،ومرتفعات القارة ، منخفضات للماية ، والفجاج حيث تخوم اولاد مختار الزرقاء وبين الكتاتيب تعلمت الأبجدية الأولى ،ونسجت وشائج مع الطيور والكروان ،على خطى صاحب البيان ،ابن المنطقة البار الذي أصبحت فراشة ترفرف في نجيعه منذ الصغر ...حيث كان لا يعرف للحرف معنى ،إلى أن أصبح مربيا شريفا وأستاذا حصيفا وقلما ألهمته الحباحب وصقلته المصائب والسباسب ،قلم نزيه من عند الله الذي ألمهه سحر الكلام والبلاغة وبديع البيان ،شرف عين الأسرى ،حين أحب أهلها وكتب اسمها في الملتقيات والمهرجانات ،خلاف الصحف والمجلات ، ويضارعها في التواضع والحياء مع الكبرياء،ل مدينته التي لم تصرح يوما بأنها الحاضرة الكبيرة رغم موقعها وطيبة أعيانها ،ولم يقل يوما :أنا الدكتور والأديب ومفتش التربية ,و..و..و فالأصيل سيظل أصيلا مهما نال من السطوع و تحصل على المراتب والمناصب والذيوع ،هذه حقيقة ...صدقة جارية لابد أن تسجل ،جمعنا الواجب الأدبي مع التسعينات ،وكان السفر معه متعة ، رجل من صنف النخيل ،لا يعرف للخذلان معنى ،ولا يركع إلا لرب الورى ،وقلم شفاف زاهد في الأضواء ،كانت مناسبة الإحتفاء بعين الجربوع لأدون رأي بصدق ومحبة ودون حرج ،ولا أفرضه على أحد، كما أنوه بأبناء المدينة وفضلهم على المدينة وأهلها ،كل واحد بإسمه ومكانته ومجاله ،من كتاب وشعراء في الجنسين ،نشطت معهم مدة الثلاثين وإعلاميين من جيل التسعين والألفين، فالشجرة الطيبة لا محالة لا تنجب إلا الطيبين ،كيف لا والشجرة لم تكن إلا عين وسارة .التي تفتح جوانحها لخليقة الرب ،وتحتضن الجميع بالوراثة ، كل السكان سواسية في مبادئها ،بشهادة المنصفين .