القائمة الرئيسية

الصفحات

جاري تحميل التدوينات...


هو بدر الدين أبو محمّد الحسن بن عمر (ت 779 ه‍/1377 م)، المعروف بابن حبيب الحلبي. وُلد في دمشق ثم انتقل إلى حلب حيث نشأ، وتنقّل بين بلاد الشام ومصر وفلسطين، وحجَّ مرّتين. اشتهر بالجمع بين العلم والنثر والشعر؛ وله مؤلفات منها نسيم الصبا التي احتوت على هذه الصور البلاغية الفريدة.

النص الأصلي: «وصف السفينة» (مقتطف)

وصف السفينة عند ابن حبيب الحلبي – السفينة في البحر الهائج
لوحة تعبيرية للسفينة وهي تواجه البحر العاتٍ — مستوحاة من وصف ابن حبيب الحلبي في نسيم الصبا.
يا لها سفينة على الأموال أمينة، ذات دسر و ألواح تجري مع الرياح و تطير بغير جناح و تعتاض عن الحادي بالملاّح؛ تخوض و تلعب و ترد و لا تشرب. لها قلاع كالقلاع و شراع يحجب الشعاع، و سكينة و سكّان و مكانة و مكان، و جؤجؤ و فقار، و أضلاع محكمة بالقار، و جسم عار عن الفؤاد و هو في عين الماء بمنزلة السواد...

فبينما نحن من البحر في قاموسه كتب الجوّ حروف الغيم في طروسه. و ثارت ريح عاصف يتبعها رعد قاصف. فمالت بنا الفلك و اضطربت، و دنت شفتها من رشف الماء و اقتربت، و استمرّت ترفع و تخفض، و تقرب و ترفض، و تعلو كالأطواد و تهيم في كلّ واد، و تحوم و تحول، و تجور و تجول، و تضرم في الكبود نار ناجر، إلى أن بلغت القلوب الحناجر...

قراءة تحليلية: البناءُ البلاغي والدلالي للنَص

ينطلق ابن حبيب في وصفه من مستوى ماديّ لتكوين السفينة (دسر، ألواح، أضلاع مُحكمة بالقار) إلى مستوى سردي–شعري يحوّل العنصر المادي إلى كيان حيّ. هذا الانتقال من التقني إلى الفني يخلق ثنائية مدهشة: العلم بالملاحة والتفاصيل الحرفية، مقابل التخييل الشعري الذي يجعل القارئ يختبر الحركة والرهبة والمخاطرة.

الإيقاع اللفظي وتكرار الأفعال

التوازي اللفظي (تخوض وتلعب وترد) و(تحوم وتحول وتجور وتجول) يُبرز إيقاعًا مسجوعًا شبيهًا بالمقاطع الشعرية، مما يمنح النص موسيقى داخلية توازي إيقاع البحر. التكرار هنا ليس زينة بل أداة سردية تبني إحساسًا بالدوام والحركة الدائرية — وكأن القارئ يُجبر على الاستمرار مع الأمواج لا الانفكاك عنها.

الاستعارات والتجسيد

التجسيد بارز عندما تُعامل السفينة كـ«جارية» و«جسم» و«قلاع»؛ كما أن عبارة «جسم عار عن الفؤاد» تضفي طابعًا تعبيريًا: السفينة أجوفة داخليًا لكنها تظهر ككيان جامد مقابل زئبقيّة البحر (السواد في العين). التورية تُستخدم حين تشير «الجارية» إلى السفينة وفي الوقت نفسه تستحضر دلالات العبودية والملك والقدرة الإلهية في توجيه المصائر.

البنية الرمزية: البحر كاختبار وجودي

البحر في النص ليس خلفية فقط، بل محكّ أخلاقي ووجودي: فيه الغنى والغرق، فيه الاختبار والتجربة. تصاعد الصور من الحركة إلى العاصفة ثم إلى الوصول إلى جزيرة مخضرة يحمل تسلسلًا قصصيًا ذا بعد أخلاقي؛ رحلةٌ تبدأ بالتحدي وتُنهي بتوقّف وتأمل — نموذجٌ لرحلة الإنسان بين المخاطر والراحة.

حركة السفينة في البحر الهائج – تصوير تحليلي
تمثيل فني لحركة السفينة والأمواج أثناء العاصفة؛ الصورة لخدمة الفهم التحليلي للنص.

مفردات وملاحظات لغوية

  • دسر: رباط أو مسمار يشدّ الألواح — يدلّ على معرفةٍ تقنية ببنْية السفينة.
  • القلاع (بفتح القاف): شراع السفينة (وليس القلعة بمعناها الحصني فقط).
  • السكينة: مقدمة السفينة؛ و«السكان» قد تدلّ على الدفة أو مكوّن آخر في هندستها.
  • الجارية: تورية؛ السفينة تُشبَّه بمرأة خاضعة للتوجيه — وفيها تورية دينية عندما يُنسب الأمر إلى من لا تُخفى عليه السرائر.

خلاصة وتأملات نقدية

يقدّم ابن حبيب في مقطعٍ واحدٍ نموذجًا لأسلوبٍ يجمع بين المعرفة التقنية والبلاغة التصويرية. النص يقود القارئ من الإدراك الحسي (الصلب، الخشبي، القار) إلى الشعور الوجودي (الرهبة، الاختبار، الصفاء عند الوصول إلى البرّ). لهذا السبب يظلُّ «وصف السفينة» نصًا مناسبًا للدراسات المقارنة بين علم البَحر والأدب، وللنظر في كيفية اشتغال التخيل البلاغي عند أدباء العصور الوسطى.


إعداد مجلة النبراس الأدبية والثقافية — بإشراف محمد دويدي.

#مجلة_النبراس #نبراس_الأدب_العربي #ابن_حبيب_الحلبي #نسيم_الصبا #وصف_السفينة #تحليل_أدبي

تعليقات

التنقل السريع