القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

دراسات ج3/ إيقاع القافية الشعرية... للدكتور: بشير ضيف الله..عن: بنية الإيقاع الشِّعري و أشكالهُ الأسلوبية.

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏‏‏جلوس‏، و‏‏شاشة‏، و‏مكتب‏‏‏ و‏منظر داخلي‏‏‏‏


2. إيقاع القافية الشعرية :

"القافية" لغةً من "قفاه واقتفاه، وتقفاه"، بمعنى تبعه واقتفى أثره(60) و تعورف عليها بهذا الاسم كون << الشاعر يقفوها، أيْ يتبعها فتكون قافية بمعنى مقفوة، كما قالوا "عيشة راضية" بمعنى مرضية، أو تكون على بابها كأنها تقفو ما قبله..>> (61) ، إلا أنها تختلف في مفهومها من ثقافة على أخرى،ومن عصر إلى عصر، فقد عدَّت ركنا من أركان الشعر قديما.
أما اصطلاحا، فهي << مصطلح يتعلق بآخر البيت، يختلف فيه العلماء اختلافا يدخل في عدد أحرفها وحركاتها..>> (62) ، واعتبرها "الخليل" ما وقع بين آخر ساكنين والمتحرك قبل أولهما في حين اعتبرها "الأخفش" آخر كلمة في البيت الشعري(63) ،هذا المفهوم الذي تحوَّل في الأبحاث الأوروبية إلى << تكرار أصوات متشابهة أو متماثلة في فترات منتظمة، وغالبا ما تكون أواخر الأبيات الشعرية، وقد تكون أحيانا في النثر (كالسجع عند العرب) أو داخل البيت من الشعر..>> (64).

أما "لوتمان" فاعتبرها تكرارا صوتيا(65) ، ومجال توافق صوتي بين الكلمات أو بين أجزاء منها، في مواضع محددة من الوحدة الإيقاعية(66) ، هذا التكرار الذي قد يقترن بضروب أخرى من التكرار كالتكرار النحوي، والتكرار الدلالي؛ ومن ثم يمكن الخلوص إلى أنها مجموعة <<أصوات تتكرر في أواخر الأشطر أو الأبيات من القصيدة، وتكررها هذا يكون جزءا هاما من الموسيقى الشعرية، فهي بمثابة الفواصل الموسيقية يتوقع السامع ترددها، و يستمتع بمثل هذا التردد الذي يطرق الآذان في فترات زمنية منتظمة،وبعد عدد معين من مقاطع ذات نظام خاص يسمى الوزن>>(67).
ولعلَّ من المهام الوظيفية للقافية إحداث الانسجام و التناغم لأنها بمثابة ضابط "الإيقاع" في " الأوركسترا " نظرا لوقعها المتواتر و الأثر الذي تحدثه ، مما يعني أنَّ لها :
<< بعداً من التناسق والتماثل يضفي عليه طابع الانتظام النفسي والموسيقي و الزمني>>(68) ، لذلك فهي << تشكِّل قسماً من شبكة المقطع الشِّعري الصوتية>>(69).

و ما يجدر التأكيد عليه، أن القافية في ظل التحوُّل الشعري الراهن، لم تعد تخضع إلى تلك القوانين الرياضياتية بالغة التدقيق، وإنّما انزاحت من بعدها النَّظمي المكرّس إلى دائرة "الإيقاع" والحركة بدلا من المراوحة و التهافت فقد أصبح لها بعد دلالي فاعل في إنتاج المعنى انطلاقا من موقعها لأن <<الصفة الاختتامية التي تتميز بها القافية، سواء أكانت في البيت أم في الجملة الشعرية أو المقطع الشعري أو عموم القصيدة، لا يمكن لها أن تكتفي بدور الضابط الموسيقي المجرد...إذ لابد لها أن تشترك اشتراكا فاعلا في التشكيل الدلالي، فثمة انسجام يجب أن يكون تاماً بين بنية الإيقاع وبنية الدلالة، إذ أن أية مفارقة بينهما تؤدي بالضرورة إلى خلخلة وارتباك في التشكل العام لهيكل القصيدة ويفقدها تماسكها النصي..>> (70). 
وما نخرج به من خلال هذه المقاربة هو أن "القافية" كوحدة عروضية لها دور إيقاعي/ دلالي متوازٍ، وهو ما يحيلنا إلى كون "الإيقاع" برمته لم يعد مفصولا عن سياقه الدلالي بقدر ما هو متشابك ومتفاعل مع كافة معطيات النَّص كمتن وكمنجز إبداعي، فهي ليست << جزءً منفصلا مكملا يدخل في صميم العملية الشعرية من الخارج، كما أنها ليست أداة قابلة للحذف و الاستبدال والتعديل لأن دورها في تحقيق اللغة الشعرية لا يسمح بذلك...>> (71).


إنَّ التحول الذي عرفته الشعرية العربية لم تكن "القافية" بمنأى عنه، فقد بدأت تفقد بعضا من صرامتها ولم تعد ثابتا معياريا محدَّدا وخاضعا لقواعد متعارف عليها وموضوعة سلفا، و إنما << اتخذت أشكالا أخرى تراوح بين الاطراد في بعض الأبيات دون الأخرى،وبين تغيير موقعها داخل السطر الشعري مع الاحتفاظ بالروي، لتصل في بعض الكتابات الحديثة إلى مجرد الاحتفاظ بالصيغة دون الروي ، فضلا عن التوزع داخل الجملة الشعرية بدل التحصن في مواقعها التقليدية عند نهايات الأبيات >>(72) ، فهي مولّد إيقاعي/معنوي نظرا لبنيتها الصّوتية بعيدا عن كونها عنصرا تُعرف به أواخر الأبيات في الفكر النّقدي القديم ، حيث تتجلَّى قيمتها الصوتية والجمالية في تركيبتها المكونة من حروف وحركات و مقاطع صوتية بالأساس.

.عناصر القافية الشعرية:
ميَّز "المسعدي" عناصر ثلاثة للقافية الشعرية، بقوله: 
<< إنّ ثلاثة أنواع من العناصر مختلفة صوتيّا تتضافر في تركيب القافية: عنصر ذو جرس حرفي وعنصر ذو جرس حركيّ وعنصر جامع بين جرس الحركة ومداها وهما الرويّ والمجرى أي الحرف الأخير وحركته. وقد يكفيان وحدهما لتكوينها كما هو الشأن في القافية البسيطة. أما في القافية المركّبة فتضاف إليهما أصوات أخرى ويصبح عدد العناصر الثابتة التي لا تتغير أكبر ويتراوح بين الثلاثة والستة>> (73).
من هذا المنظور تخرج عن مفهومها العروضي "الصَّارم" الذي يحددها ضمن حيز واقع بين آخر ساكنين والمتحرك قبل أولهما، لتكون مجالا صوتيا متحركا ومتجددا باستمرار بدلا من الجمود والصرامة.

ويمكن إحصاء عدة أشكال للقافية، هي: 
1.2. القافية البسيطة : 
يتسم هذا النَّوع بأحادية الشكل والتكرار فلا تغيير ولا تنوع فيها ، والقصيدة العمودية مجالها الخصب، غير أننا نجدها في النصوص الحرة خاصة مع بدايات التحول الشعري على غرار نصوص "نازك الملائكة"، وبدايات "صلاح عبد الصَّبور"..ومع ذلك فإنها لا تزال تجد لها مكانا في النصوص الراهنة على غرار الأسطر و الجمل الشعرية ، بحيث لم تعد حكرا على النصوص العمودية، ومن أبرز أشكالها: 
1.1.2. القافية السطرية:
إن السَّطر الشعري يعتبر البديل الحداثي للبيت الشعري وهو وحدة من الوحدات الدلالية المشكلى للنص الحر أو النثري ولكنه لا يستقل عما عداه كما هو الحال في الشعر الكلاسيكي ، و <<التقفية التي يعتمدها السطر الشعري هي من أبسط أنواع التقفية البسيطة الموحدة، إذ إنها تنهض على أساس تكرار قافية موحدة في كل سطر شعري، قد تتعاقب تعاقباً لا انقطاع فيه، وقد تنقطع بين الحين والآخر لكنها في كل الأحوال تعتمد السطر أساسا لها..>> (74) ، وهو ما يجسده قول "قدور رحماني" في قصيدته (رفرفة الخروج) :
" قمرٌ بعمق هديلك الشّتويّ غيّبه المطرْ فجلست فوق ضفاف جرحك كالقمرْ تتلو كتابا من دموع ومراحل الحبّ المغيَّب في السَّحرْ ..................................." (75) 
فقد وظَّف الشاعر القافية توظيفا كلاسيكيا لا يختلف كثيرا عن النُّصوص العمودية، وتقيّد في هذا المقطع بقوانين العروضيين، ممّا يجعل حراك النَّص خطيا/ أفقيا دون توتُّر ملحوظ. 
ويتجلّى ذلك بوضوح أكثر في نصّ " (إبحار في ثنايا السؤال) لــ:"حسين عبروس" حيث تبرز النّمطية التقليدية في التشكيل القافوي و حتى في توزيع الأسطر الشعرية ، فالنّص - في مظهره- يبدو كقصيدة عمودية :
"رنّ هاتفي وبكى مبحرٌ في عيون الجمالْ واستحال المدى ثورةً توقظ الروح في ثنايا السؤالْ هو ذا الكونُ لي يرسمُ صورةً للجلالْ كلما أبحر النّاسُ في ثنايا السؤالْ"(76)

إنّ توالي القافية بهذا الشكل الرتيب يفقد النَّص كثيرا من ملامحه الجمالية ، ويُغيّب ُعنصر المفاجأة في غياب الاشتغال المبهج ، الاشتغال على الفجاءة بكل ّتوثباتها. 
2.1.2. قافية الجملة الشعرية:
لا تتحدَّد سطور الجملة الشعرية بعدد ما، بقدر ما هي بنية دلالية مستقلة ، مكتملة المعنى والفكرة والشعور ، و<< استقلاليتها ليست استقلالية دلالية بل استقلالية موسيقية، إذ إنها تعتمد على الدفقة الشعورية التي تتناسب في طول موجتها من الموقف النفسي والعاطفي والفكري للتجربة الشعرية من جهة، ومع طول النفس عند الشاعر من جهة أخرى>>(77) ، فهي بنية موسيقية مكتفية بذاتها(78) تمتدّ أو تقصر بحسب ما تقتضيه الدفقة الشعورية من وقف نهائي ، وبالتالي فإن الوقفات الداخلية بمثابة "قافية" في:
<< إتاحة الفرصة والاستمرار .وهي عملية أدق و أرهف من الوقفات المألوفة في نهاية السطر الشعري>>(79) لها دلالاتها الإيقاعية و النفسية و الفنية، فإذا كنّا << إزاء جملة شعرية فلا سبيل مطلقا للبحث عن وقفة موسيقية مريحة عند نهاية كل سطر >>(80) هذه الوقفات وظيفتها التصعيد الإيقاعي حد الذروة عند نهاية الجملة الشعرية ، فيمتلك بذلك هذا النوع من القافية أفضلية إيقاعية ، وكنموذج لهذا الشكل الإيقاعي، أقف عند المقطع التالي من قصيدة (لمسات يومية) (81) لـــِ: "الأخضر فلوس" :

"في الطريق أشارت إلى حائط مائلِ... وقفة أولى
ثمَّ قالت :
أأبصرتَ ذاك الفتى؟.... وقفة ثانية
"إنَّهُ العقبهْ"... قافية الجملة الشعرية
إذْ عبرنا تمايل و التفتَ،
ثمَّ قام ليشعل نيرانهُ …. وقفة ثانية
في الرؤى المعشبهْ" قافية الجملة الشعرية

في هذا المقطع الشعري لم تكن الوقفات الثانوية قوافيا، بل أنَّ القافية تتجسَّد عند نهاية كل جملة شعرية، وهو ما يجعل باقي الوقفات عوامل إقلاع و هبوط إيقاعي بحسب الدفقة الشعرية، فهي بمثابة عناصر مساعدة للوصول إلى قافية الجملة الشعرية /الذروة الإيقاعية.
3.1.2. القافية المختلطة:
النوع الثالث من أنواع القافية البسيطة "الموحدة" الذي لا يعتمد النظام السطري على نحو مستقل ولا على نظام الجملة الشعرية ، بل قد تأتي في القصيدة الواحدة قافية موحدة لكنها موزعة توزيعا عفويا لا يخضع لنظام ثابت بل يخلط بين النظامين آنفيْ الذكر.
وهذا النوع يعطي الشاعر حرية أكبر في الاستخدام التقفوي، فهو يترك للقصيدة حريتها في اختيار مناطق التقفيات بلا تخطيط مسبق مما يجعلها أقل عرضة لتوليد الملل عند المتلقي بفعل سيولة التقفية وانسيابيتها.
يشكلّ "عزوز عقيل " في قصيدته (مقاطع من رحلة الضّياع) (82) منطقة مختلطة بين "القافية البسيطة" و"قافية الجملة الشعرية" في حركة تنويع تقفوي تجعل النَّص متحركا باستمرار، إذْ يقول:
"سلامٌ سلامٌ سلامْ .............قافية سطرية
سلامٌ إلى طفلةٍ ذاب 
من شفتيها الكلامْ ...........قافية سطرية
سلامٌ إلى طفلةٍ 
علمتني بأنْ أقرأ الآنسورة "مريم" ......وقفة أولى 
فقلتُ لها : ......وقفة ثانية
أنت ريحانةٌ...................................وقفة ثالثة
بل بدايتها و الختامْ" ......................قافية الجملة الشعرية

2.2. القافية المتواطئة: 
كانت تُسمّى في الفكر النقدي القديم "الإيطاء" ،وهو عيب عروضي مخلّ بالقصيدة ونظامها(83) ، فالشاعر الذي يكرر القافية نفسها في بيتين متتالين يُعتبر قاصرا بلاغيا، ولو أنَّ "المظفر العلوي ت:1295ه " صاحب كتاب( نضرة الإغريض في نصرة القريض) أطلق علية تسمية "تجنيس القوافي" واعتبره ملاذا بديعيا.

ثمَّ انزاح هذا المفهوم ليصير عنصرا فنيا في الشعر المعاصر بما يمنحه للشاعر من قدرة على تجديد المعنى، صناعته أو اختلاقه، و الشعراء<< لم يهملوا القافية في القصيدة الحرة بل طوروها لتكون أكثر مؤاتاة للبناء في القصيدة الحديثة>>(84) و ذلك لكونها << تعاطت مع الإيطاء على أساس أنه حدث إيقاعي يترجم قدرة النص على تكثيف اللغة الشعرية والغوص في أعماقها لإعادة بناء طبقـات المعنى...فليست هناك إعادة للمعنى الوحيد نفسه، وإنما تناسل ونمو لمعان جديدة، ففي كل مرة ترد المفردة إنما تعاد خلقا جيدا عبر محيطها السياقي المتجدد بما يولده من معان حافة جديدة>>(85) هذا التوليد خاصية تفعّل وتجدد الحدث الإيقاعي في النَّص باستمرار.
يقول "عاشور فني" في مقطع من قصيدته ( رجل من غبار):
"كان في قلبه امرأةٌ لم يكن هو في قلبها
كان في قلبها رجلٌ لم تكنْ هي في قلبهِ
رجلٌ لم يكن فيه قلب...
فأغرق في الصَّمت حتى افتضحْ"(86)

رغمَ تكرُّر القافية "قلب" في هذا المقطع مرات ثلاث متوالية ،إلاّ أنها لم تكنْ عبئا على النَّص بقدر ما كانت توليفة إيقاعية متَّسقةً، مشوِّقة على بساطتها، عميقة أعمق في المعنى متخطية كل التمثلات ، ففي كل مرة تُحدث زخما لافتا مفتوحا على كثير من الأسئلة، كثير من التوهج يتجاوز "الإيطاء" إلى التحليق في سماوات المعنى، و تواشيج الإثارة.
و لا يختلف الأمر في القصيدة "النثرية"، فتكرار "القافية" يتّخذ حيزا متوترا له تمثلاته ، فلا نشعر بسلبية "الإيطاء" و لا برتابته بخلاف النظرة "الاحتقارية" القديمة لهذا الشكل التكراري، يقول التونسي "محمد لحبيب زناد" :
"قصائدي
لا تحمل طعم قديم الشِّعرِ
وكثيرا ما تُعبّر عن شكل هذا العصرِ
عن مشاكل هذا العصرِ"(87) 
فتكرار "العصر" كان ذا أثر مليح مستحبّ مستلطَف حين نوغل في المعنى، ولو أخذناه بظاهره لكان هنة ً في عرف "ميكانيكيي" البلاغة و العروض و اللغة، لذلك فلا ينبغي الحكم ُ على التكرار إلا في سياق المعنى.


3.2.القافية المتوالية والمتناوبة/المتناوبة:

تقوم على أساس التوالي والتناوب بعيدا عن صرامة قوانين "العروض" في هذا الجانب، حيث << تنزع القوافي في بنية التوالي إلى الاطراد المعروف في القصيدة العربية الكلاسيكية وذلك من خلال رصف أبيـات متتالية ذات قواف تنتهي بروي موحد؛ بينما تتأسس بنية التناوب على المراوحة بين روييْن أو أكثر بحيث تتخلل الأبيات المنتهية بقافية وروي موحدين أبيات أخرى ذات قافية وروي مغايرين..>>(88).
وكمثال على ذلك، أقف عند قصيدة (الربيع الذي...) لـِ: "الطاهر لكنيزي" التي تقدم صورة مبسّطة عن هذا الشكل التقفوي:
"الربيع الذي كان سجع يمامْ قافية متناوبة ......... "تناوب"
يرتّلُ متن الحنينْ قافية متوالية ........ " توالٍ"
قد أتى دون حفحفةٍ أو طنينْ قافية متوالية
الربيع الذي كان كفَّ نسيمْ قافية متناوبة ................ "تناوب" تدغدغ أعطاف رمل تحطُّ الدوالي على كتفيه جدائلها..
وتنامْ
.................................."(89).
أما عن "التناوب المنتظم" على شكل أزواج أو أسراب (90) فيتجسّد في نص (إذا ما رأيت الفراغ يسود) لِـ: "محمد لعروسي المطوي" بقوله:

"إذا ما رأيتَ الفراغ يسودْ ......... قافية دالية وعبّاد َوهمٍ و صرعى جمودْ
وهم يجهلونْ
ولا يفقهونْ ..............قافية نونية

فسارعْ إليهم بحفر القبورْ................. قافية رائية
ويوم الدثورْ"(91)

لقد شكل "التناوب" عن طريق "الأزواج المتكررة" لعبة إيقاعية جريئة وزَّع من خلالها الشاعر القافية وفق تصوره ، ووضع مقاما نصّيا إيقاعيا خاصا به يتناسب و رؤاه الشعرية بعيدا عن كل تقييد نظري، وهو إذْ يُقدم على هذه الخطوة إنما يتَّخذ المبادرة و يشكل نسيجا شعريا خالصا له ، وفيا بذلك لقناعاته الإيقاعية .
4.2. القافية الحرة و المنوَّعة:
يمثل هذا النَّوع أحد مظاهر الحراك الشعري الحداثي، والذي بفعله تحولت "القافية" من شكلها النَّظمي الكلاسيكي المتعارف عليه إلى حالة أخرى تتسم بنوع من التكثيف و التشابك لتمثِّل عنصرا فنيا له دوره في التشكيل الإيقاعي من جهة ، وفي فعل التلقي من جهة أخرى لما تتميز به من << دقة الجمال الموسيقي وعذوبته ..>> (92).

إنَّ هذا التحول الذي عرفته الشعرية الحديثة يعكس حالة الراهن بكل تعقيداته ، وبالتالي فهو امتداد طبيعي جعل الشاعر أكثر ميلا إلى <<الموسيقى المركبة منهم إلى الموسيقى البسيطة >>(93) ، وهو ما يعني أن هذا الشكل من القافية ينبني على عنصر التنوع والحيوية بما ينعكس إيجابا على المتن الشعري ،وبما يحمله من ملامح الهدم/هدم الرتابة وتغييب عنصر الفجاءة في القصيدة الشعرية في ظلّ انفتاح النَّص على الفجاءة لا التوقّع.
يعزف "عبد الرزاق" بوكبة " على هذا الوتر في نصه (عصير التفويض) ويعلن رغبته في كسر حالة الجمود بقوله:
"قلتَ:أصل الحقيقة أنثى؟ 
و أصلُ الشياطين حرف تنزَّه عن سجدة الطين؟ السُّنبلاتُ حديث يدينْ؟ ومواسمنا شغف الله بالدوران/ المواويلُ فالتُ حواء 
وهي تشقّ أبانا مطلقة فصارت جميع الأغاني إناث؟" (94).

ما يلاحظ في هذا المقطع هو تنوع القافية القوافي، فقد وظف القافية المطلقة 3مرات"أنثى،أبانا،إناث"،ووظف القافية المقيدة 3مرات " الطين، يدين، الدوران" و تنوعها ممَّا جعل كل سطر شعري يمثل حالة إيقاعية مختلفة و غير متوقعة، فالمتلقّي تستفزّه الفجاءةُ الفجاءة المحبّبة في مثل هذه الحالة الشعرية التي تبرز قدرة الشاعر على صياغة عوالمه الشعرية وهندسة حركية نصّه بحثا عن كل مختلف.

الدكتور: بشير ضيف الله 

يتبع.....