القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

الشعر الوطني الشابي نموذجا: إعــداد \ محمد ربيعي

#الشعر_الوطني_الشابي_نموذجا :


تمهيد :

مثّلت الوطنيّة رافدا مهمّا للشعر الوطني أملته ظروف تاريخية عاشتها البلاد العربية في الثلث الأوّل من القرن العشرين وفي هذا السياق يتنزل جانب كبير من شعر أبي القاسم الشابي عبّر من خلاله عن عشق للوطن ووعي بواقع البلاد المتدهور وسعي إلى تغييره.
ومن أهمّ الأحداث المؤثّرة في شعر الشابي الوطني :دخول الاستعمار الفرنسي إلى تونس سنة 1881 وحادثة الترامواي سنة 1912 ثم قانون التجنيس الذي سنّه المستعمر الفرنسي سنة 1923 وإيقاف رجال التفّوا حول محمد علي الحامي ومحاكمتهم سنة 1925 ردّا على تأسيس أوّل نقابة وطنية تونسية سنة 1924 .

الجوانب الفنّية :


1/الأساليب البلاغية :

-الأسلوب الخبري :

كثيرا ما وظّف الشابي هذا الأسلوب لكشف أعمال المستعمر الدنيئة :
سخرت بأنّات شعب ضعيف وكفّك مخضوبة من دماه
أو لتصوير جانب من مشاعره وطموحاته : فعجّت بقلبي دماء الشباب وضجّت بصدري رياح أخر
وأطرقت أصغي لقصف الرعود وعزف الرياح ووقع المطر

-الأسلوب الإنشائي :


وظّف الشابي هذا الأسلوب لإبراز غضبه من جمود شعبه ورضائه بالذلّ والهوان :
فما لك ترضى بذلّ القيود وتحني لمن كبّلوك الجباه
أو لاستنهاض هممه ودعوته للثّورة (ألا انهض وسر في سبيل الحياة ) أو لتهديد المستعمر من

عاقبة طغيانه :


رويدك لا يخدعنك الربيع وصحو الفضاء وضوء الصباح

2/ الأسلوب الحكمي :

يعبّر هذا الأسلوب عن نزعة الشابي إلى الإطلاق والتعميم إذ هو لم يقيّد مضامينه الوطنية بتونس وإنّما جعلها متّصلة بالإنسان عامّة .
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر
ومن لا يحبّ صعود الجبال يعش أبد الدّهر بين الحفر
يكشف هذا الأسلوب الحكمي دعوة إلى قيم إنسانية خالدة مثل الحرية والإرادة والكرامة هكذا يتّسم شعر الشابي الوطني بنزعته الإنسانية ممّا يجعله شعرا خالدا .

3/ الأسلوب الرمزي :


يعتمد الشابي في كثير من الأبيات إلى إخراج المعنى إخراجا فنيا ينأى عن التعبير المباشر الصريح ليتخفّى وراء الرموز فالكهوف هي رمز الجهل والتخلّف ( وتقنع بالعيش بين الكهوف ) واللهيب رمز الغضب والثورة على عكس الرماد الذي يرمز إلى الاستسلام والخنوع (حذار فتحت الرماد اللهيب ) .هكذا يلجأ الشابي إلى الاستعارة ليوظّفها رمزيّا .

4/ أسلوب التشبيه :يستعمل الشابي التشبيه لتقريب الصورة إلى ذهن المتلقّي ,لذلك كثيرا ما استخدم الشابي هذا الأسلوب لتسهيل إبلاغ المعاني التي قصدها إلى أذهان الشعب :

خلقت طليقا كطيف النسيم وحرّا كنور الضحى في سماه
تغرّد كالطير أين اندفعت وتشدو بما شاء وحي الإلاه

5/ المعجم الطبيعي :


تحضر الطبيعة بكثافة في شعر الشابي الوطني فتتنوّع صورها فهي أحيانا الملهم :
كذا صاغك الله يا ابن الوجود وألقتك في الكون هذي الحياة وأحيانا أخرى الملاذ :
إلى النور فالنور عذب جميل إلى النور فالنور ظل الإلاه والباعثة على الوعي ومصدر القوّة :
ودمدمت الريح بين الفجاج وفوق الجبال وتحت الشجر
إذا ما طمحت إلى غاية ركبت المنى ونسيت الحذر

6/ الإيقاع الحماسي :


استعمل الشابي إيقاعا حماسيا وقد تسنّى له ذلك بفضل تكرار بعض التراكيب :
ولا بدّ للّيل أن ينجلي ولا بدّ للقيد أن ينكسر
فما ثمّ إلاّ الضّحى ...وإلاّ ربيع الوجود ..وإلاّ أريج الزهور ...وإلاّ حمام المروج ...
يكشف هذا الإيقاع الحماسي شدّة انفعال الشاعر بواقعه ورغبته في استنهاض الهمم .
الجانب المضموني :
*1 عشق الوطن : يظهر هذا العشق من خلال
المعاني التالية :

-التعبير عن حبّ الوطن :

الوطن بمثابة الحبيب الذي يفصح له العاشق عن الحبّ الذي يكنّه له فيقول مستعملا معجما غزليا : أنا يا تونس الجميلة في لج ج الهوى قد سبحت أيّ سباحه
-البرهان على حبّ الوطن : فيتخذ الشابي الزمن شاهدا على صدق قوله :
وبطول المدى تريك الليالي صادق الحبّ والولا وسجاحه
-تقديس الوطن : ارتقى الوطن عند الشابي إلى ملرتبة الدين (شرعتي حبّك العميق )
-الاستعداد للتضحية في سبيل الوطن :
لا أبالي وإن أريقت دمائي فدماء العشّاق دوما مباحه
-الإصرار على إذكاء الروح الوطنية في نفوس الشعب رغم الصدّ المتواصل :
لعلّ قصيدة النبي المجهول خير دليل على ذلك إذ أنّ الشابي قدّم لبني وطنه أفضل ما عنده (خمرة نفسي ,أزاهير قلبي )إلاّ أنّهم عاملوه بقسوة وجفاء ( فأهرقت رحيقي /دست يا شعب كأسي / فمزّقت ورودي ودستها أيّ دوس )
-الحزن على ما أصاب أبناء الوطن من ظلم وهوان :
إنّما عبرتي لخطب ثقيل قد عرانا ولم نجد من أزاحه
-التفاؤل بمستقبل الوطن :
رغم تعبير الشابي عن تشاؤمه فإننا لا نعدم في بعض قصائده تفاؤلا بمصير الوطن :
إنّ ذا عصر ظلمة غير أنّي من وراء الظلام شمت صباحه
ضيّع الدهر مجد شعبي ولكن ستردّ الحياة يوما وشاحه
رغم هذه العلاقة الوجدانية فإنّ الشابي لم يحلّق في الخيال بل كان قريبا من واقع متدهور يعيشه شعبه بسبب الاستعمار
*2 الوعي بواقع البلاد المتدهور :
أ-واقع الشعب : التخاذل –الاستسلام-الصّمت :لا يحرّك أفراد الشعب ساكنا رغم جبروت المستعمر وهم يقولون ما لا يفعلون :
إنّما عبرتي لخطب ثقيل قد عرانا ولم نجد من أزاحه

-انتشار الجهل :

يستعمل الشابي الرمز من قبيل الكهوف ,الليل ,الظلام ..للتعبير عن الجهل الذي تفشّى بين أفراد الشعب : وتقنع بالعيش بين الكهوف فأين النشيد وأين الإياه
-شعب يائس : ماتت أحلامه فتردّى في غياهب اليأس والشابي يلومه متألّما :
وتطبق أجفانك عن الفجر والفجر عذب ضياه
-شعب ذليل :فيعاتبه الشاعر على رضوخه واستسلامه :
فما لك ترضى بذلّ القيود وتحني لمن كبّلوك الجباه
-شعب فاقد لمعاني الحياة ومقوّمات الإنسانية :
هذا الشعب الفاقد للحرية لا يمكنه أن يتلذّذ الحياة ويدرك معانيها :
وتسكت في النفس صوت الحياة القويّ إذا ما تغنّى صداه
-شعب خائف معرض عن طلب الحياة الكريمة والرغبة في البحث عن مصير أفضل :
أتخشى نشيد السماء الجميل أترهب نور الفضا في ضحاه
إنّ هذه الوضعية المتردية لواقع الشعب التونسي سهّلت تغلغل الاستعمار الذي راح يمارس سياسته المستبدّة .

ب-أعمال المستعمر :


-الظلم والاستبداد :وتوخّوا طرائق العسف والإرهاق توّا وما توخّوا سماحه
ألا أيها الظالم المستبد حبيب الظلام عدوّ الحياه
-القتل والتعذيب :يتلذّذ المستعمر بقتل شعب بريء إذ يذكر الشابي مخاطبا المستعمر (وكفّك مخضوبة من دماه ) وينعى على المستعمر فقدانه للمشاعر الإنسانية إذ هو يتلذّذ بأنين الشعب (سخرت بأنّات شعب ضعيف )
-محاربة المناضلين :

يستوي في ذلك المناضلون الذين يحملون السلاح أو الذين وظّفوا الكلمة لكشف نوايا المستعمر عن طريق الخطب أو الأشعار أو المقالات ...
كلّما قام في البلاد خطيب موقظ شعبه يريد صلاحه
ألبسوا روحه قميص اضطهاد فاتك شائك يردّ جماحه
-نشر الجهل والعقلية الخرافية والعادات البالية (ضيّع الدهر مجد شعبي )
محو مقوّمات الهوية الوطنية (اللغة –الدين ..)واستبدالها بثقافة أجنبية إضافة إلى نهب خيرات البلاد (الثروة –المناجم ...)واستغلال العمّال (نظم الشابي قصيدة تونس الجميلة للتنديد بإيقاف محمد علي الحامي ورفاقه الذين كانوا يناضلون ضدّ استغلال العمّال ونهب خيرات البلاد
إنّ الإمعان في كشف واقع الشعب وفضح حقيقة المستعمر ليس إلاّ رغبة في :
*3 استنهاض الهمم :
-الدعوة إلى التخلّص من الجمود والتخاذل :
ألا انهض وسر في سبيل الحياه فمن نام لم تنتظره الحياة
-اعتبار الحرية شرط الوجود الإنساني :
خلقت طليقا كطيف النسيم وحرّا كنور الضّحى في سماه
-الدعوة إلى التسلّح بالعزيمة والإرادة :
إذا الشعب يوما أراد الحياه فلا بدّ أن يستجيب القدر
-الإغراء بفضل مواجهة المستعمر :
ولا تخش ممّا وراء التلاع فما ثمّ إلاّ الضحى في صباه
الاستنتاج :
الشعر الوطني ليس مجرّد مشاعر حالمة متعالية عن الواقع بل هو شديد الالتصاق بقضاياه حريص على تقديم الحلول لها
الشعر الوطني يعبّر عن تفاعل الشاعر مع واقعه فهو يتألّم حينا من واقع الشعب المتردّي ويثور على سياسة المستعمر الرامية إلى تخريب البلاد حينا آخر وهو يبدو في بعض الأحيان متبرّما إلى حدّ إعلانه عن تخلّيه عن قضيّة وطنه فلا يستطيع ذلك .إنّ تردّد الشاعر الوطني بين مختلف هذه الأحاسيس والمواقف يعبّر على توهّج مشاعره وعمق تعلّقه بوطنه .

__________________________

إعــداد \ محمد ربيعي