القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

حاجب بن زرارة التميمي وإسهاماته الفكرية قبل الإسلام بقلم: بركه عبدالله عبدالهادي

حاجب بن زرارة التميمي وإسهاماته الفكرية قبل الإسلام
بركه عبدالله عبدالهادي (()
ملخص البحث
تتناول هذه الدراسة دور حاجب بن زرارة التميمي، وإسهاماته الفكرية في المجتمع العربي، قبل الإسلام. حيث كان له حضوره الفاعل في حركة المجتمع، وله إسهامات عديدة في شتى المجالات، والنشاطات الاجتماعية والأدبية ومن أبرزها:
1 ـ الحُكم: يعد حاجب، أحد الحكام المشهورين والرؤساء الأعلام، وأغلى العرب فداء، وأول من حكم على نفسه من الحكام. وذلك عندما اختلفوا في أسره، طلبوا منه أن يقر بمن أسره، وطلب هو أيضا أن يحكموه في نفسه، فجعل ألف ومئة ناقة فداء له من الأسر.
2 ـ الخطابة: وهي حديث نثري شفهي، يهدف إلى إثارة مشاعر الناس وإشعال عواطفهم رغبة في الحصول على مرادهم، وأنه كلما كان الإفصاح قويا وعذبا كان وقعه في القلوب أشد وأعمق. وهي قوة تنطوي على إقناع الناس ما أمكن من خلال وقوف المتكلم أمام جمهور السامعين. كان للخطيب مقام كبير في تلك الفترة لمقدرته في الدفاع عن قومه، وكان حاجب بن زرارة أهلا لذلك، عندما قدم خطبته الشهيرة أمام كسرى، أقنعه بها للسماح لقومه بالنزول في ريف العراق عندما منعهم من ذلك.
3 ـ قوس حاجب: تعد قوس حاجب من الأمور الهامة في تاريخ العرب في الجاهلية، حيث أن قيمتها المعنوية لا تعادلها قيمة في ذلك العصر، لأنه رهنها عند كسرى، مقابل أن ينزل قومه ريف العراق، لا شك أنه ما كان ليقدم شيئا يرده كسرى. فكانت هذه القوس التي تصحبه في حله وترحاله، من أغلى ما يملك. لأن حاجب يعلم أن العبرة ليست في ثمن الرهن، لأن كسرى ليس بحاجة إلى ما لدى حاجب. لكن العبرة في قيمة القوس عند حاجب نفسه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( أستاذ مساعد في المعهد الوطني العالي للعلوم والتقنيات، بأبشة.
المقدمة:
شغل حكام العرب حيزا مهما ومؤثرا في الحياة الجاهلية قبل الإسلام، وذلك من خلال تصديهم لفض النزاعات، وإنهاء حالات الصراع، التي كانت تقوم بين الأفراد والجماعات، بل إن كثيرا منهم استطاع منع وقوع مشاجرات وحروب كانت ستشتعل نيرانها لولا تدخل هؤلاء الحكام، والفصل بين الأطراف المتنازعة، والإصلاح بين المتخاصمين والمتنافرين، فحفظوا الدماء التي كانت ستراق، والأرواح التي كانت ستزهق، والأموال التي كانت ستهدر، بسبب منافرة أو خصومة. وتمكنوا بفضل ما يتمتعون به من حكمة، وتجربة ومعرفة وسداد رأي واستنتاج أحكام، تحولت مع مرور الأيام إلى أعراف بدت أشبه بالأحكام التي يسير عليها الجاهليون، وربما كان السبب راجعا إلى غياب شرعة أو دين يحتكمون إليه. فالحاكم هو الذي ينفذ الحكم، وحكام العرب علماؤهم الذين يحكمون بينهم إذا تشاجروا في الفضل والمجد وعلو الحسب والنسب، وغير ذلك من الأمور التي كانت تقع بينهم، وكان لكل قبيلة من قبائلهم حكم يتحاكمون إليه، وهم كثيرون لا يسعهم الحصر.
وكما كان للحكام دور مهم وفعال في فض الخصومات وإطفاء نيران المنازعات بين الناس، فقد كان لبعضهم دور في حل النزاعات الأدبية، وذلك بتصديهم للتحكيم بين الشعراء، كالذي فعله ربيعة بن حذار، عندما جلس للحكم بين الزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم (1) وكذلك كما فعل النابغة الذبياني، حيث حكم بين حسان بن ثابت والأعشى والخنساء بنت عمرو بن الشريد. (2)
وكان عدد كبير من حكام العرب زعماء لقبائلهم وكانوا أهل الشرف والسيادة فيها، ومن هؤلاء الحكام: حاجب بن زرارة سيد تميم وزعيمها، وأغلى العرب فداء حتى ضرب به المثل، فقيل: أغلى فداء من حاجب، وما ذلك إلا لمكانته في قومه. من خلال هذا المقال نتناوله بالبحث والدراسة، فمن هو حاجب بن زرارة التميمي؟ متى نشأ وكيف عاش؟ وما السبب الذي أدى إلى وفادته لكسرى ورهنه قوسه؟ وكيف تم أسره وفداءه نفسه؟ وما هي إسهاماته الفكرية قبل الإسلام؟ كل هذه الأسئلة وغيرها نتطرق لها في ثنايا هذا البحث.  
1 ـ حياته ونشأته:
     هو حاجب بن زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم التميمي، (3) ويكنى (بأبي عكرشة) كان سيد بني تميم في الجاهلية بلا منازع، وقائدهم في عدة مواطن، وأبعدهم صيتا، وأخلدهم ذكرا، وأوسعهم حلما. وله معرفة تامة بأخبار العرب وأحوالها وأنسابها، وكان من مشاهير فصحاء زمانه وبلغائهم. ومن المعروفين بالوفاء بين العرب. كان حاجب سيدا كريما وزعيما كبيرا من زعماء العرب، وأحد الحكام المشهورين، والرؤساء الأعلام. وهو الذي يعنيه الفرزدق بقوله:
ومنا الذي أحيا الوئيد وغالب         وعمرو ومنا حاجب والأقارع (4)
وقد اعترف عامر بن مالك وهو من خصوم بني تميم بمنزلة حاجب في قومه، فقال:
ألكني إلى المرء الزراري حاجب      رئيس تميم في الخطوب الأوائل
وفــارسهـــا فــــي كـــل يــــوم كريهــــة      وخيــــر تميـــم بيـــن حـــاف وناعــــل
وذكر الميداني حكام تميم في الجاهلية، فقال: (كانت حكام تميم في الجاهلية: أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة، والأقرع بن حابس، وربيعة بن مخاشن، وضمرة بن ضمرة. غير أن ضمرة حكم فأخذ رشوة فغدر). (5)
كان زرارة – والد حاجب - شريفًا في قومه، معروفًا بالحكمة والرأي السديد، فكان بنو تميم يرجعون إليه في القضاء وفضِّ الخصومات، وكان يقود قومه ومن حالفهم في الحروب والغارات. وقد جعل الشعراء من بني تميم فيما بعد يُفاخرون بانتسابهم إلى زرارة ويذكرونه في أشعارهم، فمن ذلك قول عمرو بن الأهتم يصف كرم آبائه وأخواله:
نَمَتْني عُروقٌ مِنْ زُرارةَ للعُلا          ومِنْ فَدَكيٍّ والأَشَدِّ عُروقُ
ومن ذلك قول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا       بيتـــــا دعائمــه أعـــــز وأطـــــول
بــيـــتـــــــا زرارة مـــحــتــــب بــفــنــائــه       ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
ولمـَّا كـان يوم (شِعْب جَبَلَة) قُتِل أخوه لقيط وأُسِـر حاجب، فلم يكن أحدٌ ممَّن يحضر سوق عكاظ أغلى فداءً من حاجب؛ فقد فدى نفسه واستخلصها من الأسر بألفٍ ومائة ناقة. ونتعرض لأسره في الفقرة السادسة من هذا المقال. ولعلوِّ المكانة التي كان حاجب يحتلُّها في قومه، فقد رُوِي أنَّه كان واحدًا من أربعة أشراف من بيوتات العرب اجتمعوا في بلاط كسرى للتَّفاخر وذكر المآثر، فوقف يُمثِّل بني تميم أمام الحكَّام العدول. غير أنَّ الوفاء كان من أبرز الخصال التي خلَّدت ذكر حاجب على مرِّ العصور والأزمان. ولهذه الخصلة، قصَّة عُرِفت بقصَّة قوس حاجب.
2 ـ لقاء حاجب مع كسرى ورهنه قوسه:
جاء في خزانة الأدب أن حاجب بن زرارة وفد على كسرى لما منع تميما من ريف العراق، فاستأذن عليه، فأوصل إليه، فقال: أسيد العرب أنت؟ قال: لا. قال: فسيد مضر؟ قال: لا. قال: فسيد بني أبيك أنت؟ قال: لا. ثم أذن له فدخل عليه. قال: من أنت؟ قال: سيد العرب !قال: أليس قد أوصلت إليك: أسيد العرب أنت: فقلت: لا. حتى اقتصرت بك على بني أبيك، فقلت: لا؟ قال له: أيها الملك: لم أكن كذلك حتى دخلت عليك، فلما دخلت عليك صرت سيد العرب. قال كسرى زه: ــ بمعنى أحسنت، دليل على الإعجاب ــ إملؤا فاه درا. ثم قال: إنكم معشر العرب غدر، فإن أذنت لكم أفسدتم البلاد، وأغرتم على العباد وآذيتموني. قال حاجب فإني ضامن للملك ألا يفعلوا. قال: فمن لي بأن تفي أنت؟ قال: أرهنك قوسي. فلما جاء بها ضحك من حوله. وقالوا لهذه العصى يفي! قال: كسرى ما كان ليسلمها لشيء أبدا. فقبضها منه. وأذن لهم أن يدخلوا الريف. (6) ويقال إن كسرى قال له: إن قوسك لقصيرة معوجة. فقال حاجب: إن تكن قوسي قصيرة معوجة، فإن وفائي طويل مستقيم. فقضت مضر شهورا جنوب العراق حتى دعاهم حاجب إلى الانصراف، فانصرفوا. فقيل في حاجب: أوفى العرب. وإلى هذه القوس أشار أبو تمام وهو يمدح أبا دلف العجلي الذي اشترك قومه مع بني شيبان في دحر الفرس يوم ذي قار بقوله:(7)
إذا افتخرت يوما تميم بقوسها        فخارا علـى مــا وطـــدت مــن مناقـــب
فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم        عروش الذين استرهنوا قوس حاجب
لماذا اختار حاجب بن زرارة قوسه دون أي شيء آخر؟ لا شك أنه ما كان ليقدم شيئا يرده كسرى. فكانت هذه القوس التي تصحبه في حله وترحاله، من أغلى ما يملك. فقد علم أن العبرة ليست في ثمن الرهن، لأن كسرى ليس بحاجة إلى ما لدى حاجب. لكن العبرة في قيمة القوس عند حاجب نفسه. فهل ظن حاجب أنه يسترد قوسه، ربما كان على يقين من ذلك. إلا أنه لم يستردها حقيقة، بل وافته المنية وقوسه ما زالت مرهونة. فقدم ابنه على كسرى واستوفاها منه
إن هذه القوس التي يتوكأ عليها العربي حين يخطب، ويلبسها حلية له وهو على فرسه، وتكون صاحبة له في الصيد والحرب، في زمن الرخاء والشدة، تعلو قيمتها المعنوية على قيمتها المادية. وقبول كسرى بها دليل على أنه أدرك هذا المفهوم. فقد تحولت هذه القوس بعد رهنها من حالتها المادية ذات الوظيفة المعروفة، إلى حالة رمزية تشير إلى حدث انتقال قبائل العرب المضرية إلى الشمال. فكما أن حاجب تنبأ أنه يسود العرب بدخوله على كسرى، كذلك كانت قوسه. فقيمتها قبل رهنها لا تساوي قيمتها بعد ذلك.
3 ـ سبب وفود حاجب إلى كسرى:
كان بنو تميم معتدين بأنفسهم لكثرة عددهم ولشوكتهم، فكانوا لا يكتفون بالمراعي التي خصهم كسرى بها، بل يعتدون على المراعي الخاصة بغيرهم. من أجل ذلك منع كسرى بني تميم من ارتياد ريف العراق كله، فأخذهم القحط وكادوا يهلكون. (8) وقيل إن السبب في وفود حاجب بن زرارة إلى كسرى، هو أن النبي صل الله عليه وسلم كان دعا على مضر وقال: ((اللهم اشدد وطأتك على مضر، وابعث فيهم سنين كسني يوسف)) فتوالت الجدوبة عليهم سبع سنين، فلما رأى حاجب الجهد على قومه، جمع بني زرارة وقال: إني أزمعت على أن آت الملك، يعني كسرى، فأطلب أن يأذن لقومنا فيكونوا تحت هذا البحر حتى يحيوا. فقالوا: رشدت فافعل. غير أنا نخاف عليك بكر بن وائل. فقال ما منهم وجه إلا ولي عنده يد، إلا ابن الطويلة التيمي وسأداويه، ثم ارتحل يتنقل حتى انتهى إلى الماء الذي عليه ابن الطويلة، فنزله ليلا، فلما أضاء الفجر دعا بنطع، ثم أمر فصب عليه التمر، ثم نادى: حي على الغداء. فنظر ابن الطويلة، فإذا هو بحاجب، فقال: لأهل المجلس أجيبوه. وأهدى إليه جزرا، وبهذا تخطى شر ابن الطويلة، ثم ارتحل حتى بلغ كسرى. (9)
4 ـ خطبة حاجب:
تعد الخطابة إحدى وسائل التعبير العامة، التي يحاول من خلالها المتحدث استمالة السامعين وإقناعهم بوجهة نظره. لذا فإنه يعمد إلى اختيار الكلمات المؤثرة، والصيغ التي تجد صدى قويا في نفوس جمهور المستمعين. كاستعمال الحكم المأثورة، والأشعار المثيرة للمشاعر والأفكار. ويعتبر حاجب أحد الخطباء البارعين في هذا المجال.
يعتبر حاجب بن زرارة أحد الأشراف الذين وفدوا إلى كسرى مع النعمان ابن المنذر، وهو أنه قال الملك كسرى للنعمان في أحد الأيام: هل في العرب قبيلة تتشرف على قبيلة؟ قال نعم. قال: فبأي شيء؟ قال: من كانت له ثلاثة آباء متوالية رؤساء، ثم اتصل ذلك بكمال الرابع. فالبيت من قبيلته فيه وينسب إليه، قال فاطلب ذلك، فطلبه فلم يصبه إلا في آل حذيفة بن بدر، وآل حاجب بن زرارة، وآل ذا الجين، وآل الأشعث بن قيس بن كندة. فجمع هؤلاء الرهط ومن تبعهم من عشائرهم، وأقعد لهم الحكام والعدول، وقال: ليتكلم كل منكم بمآثر قومه وليصدق. وبهذه المناسبة قام حاجب بن زرارة أمام كسرى فقال:
(قد علمت العرب أنا فرع دعامتها وقادة زحفها، لأنا أكثر الناس عديدا، وأنجبهم طرا وليدا. وإنا أعطاهم الجزيل وأحملهم للثقيل). (10) ثم أكمل حاجب خطبته عند كسرى في المدائن يفتخر بالعرب فقال:
(ورى زندك، وعلت يدك، وهيبك سلطانك. إن العرب أمة قد غلظت أكبادها واستحصدت مرتها، ومنعت درتها، وهي لك وامقة ما تألفتها، مسترسلة ما لاينتها، سامعة ما سامحتها، وهي العلقم مرارة، والصاب غضاضة، والعسل حلاوة، والماء الزلال سلاسة. ونحن وفودها إليك، وألسنتها لديك، ذمتنا محفوظة، وأحسابنا ممنوعة، وعشائرنا فينا سامعة مطيعة، إن نؤب، لك حامدين خيرا، فلك بذلك عموم محمدتنا، وأن نذم لم نخص بالذم دونها). قال كسرى: يا حاجب ما أشبه حجر التلال بألوان صخرها، قال حاجب: بل زئير الأسد بصولتها. قال كسرى وذلك. (11)
5 ـ شعر حاجب:
لم يكن لحاجب بن زرارة شعر يذكر، كغيره من حكام العرب المشهورين، كأكثم بن صيفي، وأمية بن الصلت التميمي، والحارث بن عباد البكري وغيرهم، ولم يكن له ديوان شعر على غرار ما كان لبعضهم، بل كانت له نتف من الشعر متفرقة في ثنايا الكتب، إلا أنه لو لم يكن له إلا خطبته التي ألقاها أمام كسرى لكفته منقبة يفتخر بها أبد الدهر، لأنه بهذه الخطبة استطاع أن يحل كارثة كادت أن تؤدي بقومه. ومن شعره أبيات يفتخر بها حاجب بقبيلته تميم، بين وفود القبائل في بلاط الحيرة قائلا:
لقد علمت أبنـــاء خندف أننـــــا       لنا العز قدما في الخطوب الأوائل
وأنا كــرام أهـــل مجـــــد وثـــــــروة       وعــــــــــــز قديـــــــم ليــــــس بالمتضائـــــــل
فكم فيهم من سيد وابن سيـــــد       أغــر نجيـــــــــــب ذي فعــــــــال ونائــــــل
فسائل أبيت اللعن عنــــا فإننــا       دعائم هذا النــــاس عنـــــد الجلائـــــل
وكذلك يفتخر أيضا في أبيات أخرى بقومه حيث يقول:
ومنا ابن ماء المزن وابن محرق           إلى أن بدت منهم بجير وحاجب
ثلاثة أملاك ربـــوا فـــي حجـــورنــــا           جميعا ومنا الفخر ما هــو كـــاذب (12)
وأنشد أبو عبيدة في أمثاله لحاجب بن زرارة، الأبيات التالية يفتخر فيها بنفسه، ويشيد بأخلاقه العالية أمام خصمه قائلا:
أغـــــركـــــم أنـــــي بــــأحســـــن شيمــــة         رفيــــق وأنــــي بالفواحــــش أخــــرق
وأنـــــــكَ قـــــد فــــاحشْتَــنـــي فغلبتنــــي         هنيئا مريئا أنت بالفُحش أخرق
ومثلي إذا لم يٌجْزَ أفضلَ سعيه         تـــكــلــــم نــُعــمـــــاه بفيــــه فـــتـــنـــطــــق (13)
6 ـ أسر حاجب وفداءه نفسه
كان لقيط بن زرارة سيد بني تميم – أخو حاجب بن زرارة - قد عزم على غزو بني عامر للأخذ بثأر أخيه معبد بن زرارة، الذي قتله بنو عامر في يوم من أيامهم. حيث أنه جُرح وأسره بنو عامر بن صعصعة، في (رحرحان) وهي أرض بقرب عكاظ، وكان واسع الثروة فطلب من أخيه حاجب أن يفديه من الأسر بمئتين من الإبل، ورضي العامريون بذلك. ولكن حاجبا قال إن أبانا زرارة نهانا أن نزيد على مائة، دية مضر. فعمدوا إلى معبد فشدوا عليه القيد، وبعثوا به إلى الطائف فلم يزل بها إلى أن مات. (14)
سار بنو تميم في رؤسائهم: حاجب بن زرارة ولقيط بن زرارة وعمرو بن عمرو، والحارث بن شهاب ومعهم أحلافهم وتبعهم غثاء من الناس يريدون الغنيمة، وتم لهم جمع لم يكن في الجاهلية أكثر منه. فلم تشك العرب في هلاك بني عامر. ولما سمعت بنو عامر بمسيرهم،
وأيقنوا أن لا طاقة لهم بمواجهة القوم المتحزبين وكان الأحوص بن جعفر الكلابي هو زعيمهم وقائدهم. فأشار عليهم قيس بن زهير العبسي بأن يأخذوا النساء والذراري والمتاع والأنعام ويتحصنوا بها في شعب جبله. وجبلة جبل عظيم له شعب عظيم واسع لا يؤتى الجبل إلا من قبل الشعب. وأمر بالإبل أن تعطش وتعقل وتقيد بالحجارة الكبيرة. وأن تكون الإبل في مقدمة الشعب ويستتر خلفها الرماة والمقاتلون. وأمرهم إذا غشاهم القوم أن يطلقوا قيود الإبل ثم ينخسوها بالعصي والرماح لتنطلق في اتجاه القوم المتحزبين الذين يقفون في طريقها إلى الماء فتدكهم الجمال والحجارة ثم يأتي دور المقاتلين من خلفهم فيرمونهم بالسهام والنبل والحجارة ويتعقبون فلولهم المذعورة بالسيوف. وقد كانت هذه الفكرة هي الملجأ لهم حينما ضاقت الأرض عليهم بما رحبت. فطبقت الخطة وحدثت مذبحة عظيمة للمتحزبين بزعامة ذبيان. فدكتهم الإبل والحجارة وأجهز عليهم المقاتلون من بني عامر وعبس. حتى أنها كانت كفيلة بنهاية حرب ضروس بينهما ولم تقم القائمة لذبيان بعدها على عبس. حتى أن بنو تميم قالوا لأول مرة نرى الإبل تقاتل مع أصحابها. (15)
كثرت القتلى في تميم وكان أول من قتل من رؤسائهم: عمرو بن الجون، وأسر معاوية بن الجون، وعمرو بن أبي عمرو بن عدس، زوج دخنتوس بنت لقيط، وأسر حاجب بن زرارة، وانحاز لقيط بن زرارة فدعا قومه وقد تفرقوا عنه فاجتمع إليه نفر يسير فتحرز برايته فوق جرف ثم حمل فقتل فيهم ورجع وصاح: أنا لقيط وحمل ثانيةً فقتل وجرح وعاد فكثر جمعه فانحط الجرف بفرسه وحمل عليه عنترة فطعنه طعنة قصم بها صلبه وضربه قيس بالسيف فألقاه متشحطا في دمه فذكر ابنته دخنتوس فقال:
يا ليت شعري عنك دخنتوس          إذا أتاها الخبر المرموس
أتحلــــــــق القــــــــــرون أم تميــــــس          لا بل تمس إنهــا عـــروس
وقال جرير في هذه الحادثة:
كأنك لم تشهد لقيطا وحاجبا       وعمرو بن عمر إذا دعا بالدارم
ويوم الصفا كنتم عبيدا لعامر      وبالحزن أصبحتم عبيــد اللهــازم
وقال أيضا:
ويوم الشعب قد تركوا لقيطا       كـــــأن عليـــــه حلـــــة أرجـــــوان
وكبل حاجــب بشمــــام حــــولا       فحكم ذو الرقيبة وهو عان (16)
يعتبر حاجب بن زرارة أغلى العرب فداء، وأول من حكم في نفسه من الحكام. وذلك أنه لما أسر في يوم شعب جبلة، وتنازع عليه الزهمدان مع مالك ذي الرقيبة بن سلمة القشيري، فلم يبرحوا حتى حكموا حاجبا في ذلك. فقالوا: من أسرك يا حاجب؟ فقال: أما من ردني عن قصدي ومنعني أن أنجو ورأى مني عورة فتركها، فالزهمدان. وأما الذي استأسرت له فمالك، فحكموني في نفسي. قال له القوم: قد جعلنا إليك الحكم في نفسك. فقال: أما مالك، فله ألف ناقة. وللزهدمين مائة. وقد صرح بهذا الأسر أصم باهلة في قوله:
حتى افتدوا حاجبا منا وقد جعلت        سمر القيود برجلي حاجب أثرا
بألف عبد وألفـــــي رائـــــــم جعلـــــوا        أولادهــم كقــاض لؤمهـــم جـــــزرا
وفي ذلك يقول الفرزدق مفتخرا أيضا:
وما علـــم الأقـــوام مثــــل أسيرنــــا        أسيـــــرا ولا أجــــدافــنـــا بـالكــــواظـــم
تـــــرى كـــــل مظــلـــــم إلينـــــا فــــراره        ويهــــــرب منــا جهــــده كـــل ظالـــم    
أبت عامر أن يأخذوا بأسيرهــم        مئين من الأسرى لهم عند دارم
وقالوا لنــا: زيــــدوا عليهــــم فإننـــا        لفــــاء وإن كـــانـــــوا ثـــغـــام اللهـــازم
رأوا حاجبا أغلى فـــداء وقـومـــه        أحــــــق بــــأيـــــام العلـــــى والمكـــــارم
فلا نقتل الأسرى ولكــن نفكهــم        إذا أثقل الأعناق حمــل المغـــارم (17)
7 ـ وفاة حاجب
ذكر أبو حاتم في الإصابة أن النبي صل الله عليه وسلم، بعث حاجبا على صدقات قومه، ولم يلبث أن مات، فخرج بعد ذلك عطارد بن حاجب، والزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم وحابس بن الأقرع، حتى قدموا على النبي صل الله عليه وسلم. فكان من مفاخرتهم ما كان. (18)
إن حاجب بن زرارة لم يسترد قوسه التي كانت مرهونة عند كسرى، بل وافته المنية وقوسه ما زالت مرهونة. فقدم ابنه عطارد بن حاجب إلى كسرى يطلب قوس أبيه، فقال له ما أنت الذي رهنها، قال: أجل. قال: فما فعل؟ قال: هلك وهو أبي، وقد وفى له قومه، ووفى هو للمك، فردها عليه، وكساه حلة. إكراما له واعترافا بوفاء أبيه، فصار ذلك الوفاء فخرا ومنقبة لحاجب وعشيرته. فلما وفد إلى النبي صل الله عليه وسلم عطارد بن حاجب وهو رئيس تميم، وأسلم على يديه، أهداها للنبي صل الله عليه وسلم فلم يقبلها. فباعها من رجل من اليهود بأربعة آلاف درهم. (19) وقيل إن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله لو اشتريتها فلبستها لوفود العرب وللعيد، فقال: إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة. وقد ارتد عطارد مع من ارتد من بني تميم بعد النبي وتبع سجاح، ثم عاد إلى الإسلام. (20)

الخاتمة:
من خلال دراستنا لحاجب بن زرارة التميمي، تبين لنا أنه أحد حُكَماء العرب، وحكامهم المشهورين، الذين تميزوا بالحنكة وسداد الرأي، وإنه كان شخصية متميزة في المجتمع الجاهلي، من خلال ما يمتلكه من أفكار وحكم، انعكست بمجملها عل الحياة العامة لمجتمعه، حتى غدت ترددها الألسن، الأمر الذي أمد تراثنا الإنساني بعطاء من القيم الخلقية والانسانية. وإن مبادرته لوفوده إلى كسرى للتوسط لقومه ما هي إلا دليل واضح لسداد رأيه وحسن تدبيره للأمور. ونتيجة لذلك استحق الدراسة والبحث. بالإضافة إلى ذلك إن بدراستنا لهذه الشخصيات الأدبية، نستطيع من خلالها أن ننقل للأجيال القادمة، أهمية الخُطب التي تتضمن الحكم والأمثال ـ في حلحلة القضايا الاجتماعية وإرساء دعائم الأمن والسلام بين الشعوب، في ذلك العصر الجاهلي، وما زال لها دورها الفعال إلى اليوم.

الهوامش:
1 ـ جواد، علي: كتاب المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط2، بيروت، ج2، 1968، ص861.
2 ـ الذبياني، النابغة: ديوان النابغة الذبياني، شرح، عباس عبد الساتر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1996، ص4.
3 ـ ابن حبيب، أبو جعفر محمد: كتاب المحبر، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 2009، ص134.
4 ـ الفرزدق، ديوان الفرزدق، شرح الأستاذ علي فاعور، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1987، ص360.
5 ـ الميداني، أبي الفضل أحمد بن محمد: مجمع الأمثال، تحقيق محمد محيي الدين، مطبعة السنة المحمدية، ج1، 1955، ص39.
6 ـ ابن عبد ربه، الفقيه أحمد بن محمد الأندلسي: العقد الفريد، ج1، تحقيق الدكتور مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1983، ص287.
7 ـ البغدادي، عبد القادر بن عمر: خزانة الأدب، ج1، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، مكتبة الهاشمي، القاهرة، 1979، ص354.
8 ـ فروخ، عمر: تاريخ الأدب العربي، ج1، دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1981م، ص174.
9 ـ البغدادي، خزانة الأدب، ج1، مصدر سبق ذكره، ص355.
10 ـ صفوت، أحمد زكي: جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة، ج1، مطبعة مصطفى الباب الحلبي، مصر، ط1، 1923، ص13.
11 ـ صفوة، جمهرة خطب العرب، المصدر السابق، ص22.
12 ـ العسقلاني، الإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة، ج1، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1995، ص657.
13 ـ الأندلسي، ابن سعيد: نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب، ج1، تحقيق الدكتور نصرت عبد الرحمن، جمعية عمال المطابع التعاونية، عمان، 1982، ص451.
14 ـ جاد المولى بك، محمد أحمد وآخرون: أيام العرب في الجاهلية، المكتبة العطرية، صيدا، بيروت، 1961، ص350.
15 ـ الأصفهاني، أبي فرج علي بن الحسين: كتاب الأغاني، ج11، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1994، ص92.
16 ـ ابن عبد ربه، العقد الفريد، ج6، مصدر سبق ذكره، ص12.
17 ـ ديوان الفرزدق، مصدر سبق ذكره، ص616.
18 ـ الإصابة في تمييز الصحابة، ج3، مصدر سبق ذكره، ص349.
19 ـ ابن عبد ربه، العقد الفريد، ج1، مصدر سبق ذكره، ص287.
20 ـ جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج2، مصدر سبق ذكره، ص859.