القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

من مجموعةالقصص الصغيرة الاولي :(1) كونشيرتو فرانسو للروائي: فتحي عبد العزيز حكاد

من مجموعةالقصص الصغيرة الاولي :(1)  كونشيرتو فرانسوا

      تسهي " ذات الدماء الزرقاء”

                    أو شواء على أنغام " كونشيرتو" الكوخ الفرنسي ..

“ ما دام يوجد خطأ فلا بد أن يوجد صواب. وإذا وجد الصواب مرة فيمكن أن يوجد مرة أخرى."

فرجينيا وولف " “

     الفتاة الحوراء ذات العشرين ربيعاً ، الممشوقة القد والقوام ، تسكن وسط "أديس اببا " , فى وأحدة من تلك القصور والفلل العريقة الفخيمة المطلة على المدينة من هضاب وأودية جبال "أنتوتو " الساحرة الخلابة الجميلة .. , بلا تحفظ أجزم لكم صادقا بأن هذة الفتاة بالذات ومن دون كل جميلات أحياء بياسا ومركاتو ومكسيكو .. , هى وحدها التى كان يعنيها تماما فنان أثيوبيا الكبير والأول "المايو أجيتي ", وفى أغنيتة الشهيرة الخالدة " أديس أببا.. بيتي " , والتى تشنف الان بجنون أسماع كل "الرستا " فى " جمايكا " وأوروبا والأمريكيتين وحول العالم ..

.

     هذة الفتاة ذات العشرين ربيعا , تتصل بنسب أمهرى رفيع تدعية يربطها مباشرة بسبط "أسد يهوذا " ملك ملوك " شوا " العظام , وبجمال ساحر أخاذ أذهب بعقول الكثيرين ، فمثلا العمة " منن " أو " أم بزونيش " تفاخر دائما ببنت أخيها الوحيد " منقستو غمجوا ", وتمجدها وتدللها فى كل مناسبة وأخرى , وتقول دائما وبأعلى صوتها :

ـ " دى يا ناس البنت الجمالها ماقشروبة .. دا وأرثاة يا ناس .. من حبوبة لحبوبة .. اا" , بل تجزم وتفاخر على رؤوس الاشهاد بأن أحدى أولئك الحبوبات الجميلات , تسببت فى ذاك الزمان الغابر من تاريخ أثيوبيا البعيد , فى أشعال فتن وحروب مروعة عديدة لا تزر ولا تبقى بين , " الراس منقشا " حاكم الامهرا " والراس " كاسا " حاكم تقراي ، ولأنها تنتسب مباشرة لارومة بنات أثيوبيا الماجدات ، فقد أحببتها وتشبثت بها من أول نظرة وهى لا تدرى .. , كان من الصعب عليك أذا عرفتها أن تتخطاها بسهولة , لأسباب عديدة لأحصر لها مرئية وأخرى كما يقولون غير مرئية على ألاطلاق , أما هى فقد كانت مهيأة وبتركيبتها الحركية الحربائية , ذاك الوقت بالذات أن تجعل من الالتقاء بك , ثم فراقك مرتاحة البال والى غير رجعة أمرا سهلا وميسورا .. وممكنا..   .

    هذة الفتاة الحوراء الممشوقة القوام , كانت مع كل ذلك رقما صعبا عند أبناء جلدتها ، تعرفت عليها فى موطنها الاصلى , وأنا مكلف من الرئاسة للعمل كخبير أمن ذاتي وتكتيك مضاد دائم بجبهة " تقراي " , للحماية وتقديم النصح والمشورة للقادة الميدانين الكبار المستهدفين , للافلات من القتل والتصفيات الغامضة أنئذاك ، فكان عملنا المشترك يمتد سويا ولساعات طوال نهاراً أو ليلاً , ولانفترق الا نادرا وأذا حدث ولو لسويعات معدودة .. , تقع الكوارث الوخيمة وبهذا الوضع أو الواقع الماثل كانت هى تكملني وأنا أكملها وفى كل شيء تقريبا ..

     أذا ما أصبنا كتبت لنا الحياة وإذ أخطانا كتب علينا الموت , وكما هو واضح أصبح قدرنا وحتى مصيرنا وأحد .. , ولان أيامنا معدودة وأفق القادة الصغارعلى زواجنا , وكشيء طبيعي فنحن نسكن الأهوال والاحراش والغابات , وحتى فى عداد المفقودين ولن نكلفهم الشىء الكثير , ولن يضار حتى مناخ العالم بتاتا من أرتباطنا ببعض ، مع كامل الضمانات بالطبع الكافية والتأكيدات دوماً وعلى حفظ الرتب والمقامات .. وهذا ليس بجديد يا صحبي ويحدث دائماً وفى أرق غابات وأحراش العالم المتمدين , هكذا كنا نظن أنا وهى .. , ولا ندرى بأن الايام والأحداث حباله دائما بالمزيد والموجع لنا حقا ..

-2-

     كانت هى بالطبع المفوضة والرتبة الأعلي , ولم يكن لمثلى وفى مثل تلك الظروف والأيام أو أى أحد كان , أن يجرؤ أو يفكر على تجاوزها أو تخطيها , ألا أنا فبطبعي المشاكس كنت كثيراً ما أشذ بتجاوزها ومعاندتها , رغم أنها كانت صندوق أسود للاسرارنا جميعا , فقد كانت بحق متنفذة وسلطاتها مطلقة , تحكم حتى بالاعدام ولم تستخدمه فى الواقع , الا ضدي أنا وحدي زوجها فيما بعد .. , كانت بارة بوطنها أولا ودائما , وفى أحلك الظروف وما أستطاعت لذلك سبيلا , ثم منحازة بكلياتها لبيتها كزوجة لايشق لها غبار .. , ولاننى تنازلت عن رغبتها طوعاً ً بعدم الانجاب , وملكتها عصمتها بيدها وأنا مكرة ومجبر , وأمام جبروت جمالها الطاغى وسطوتها ، لكل ذلك أجد نفسى وهى حلالي وفى آحايين كثيرة , أتسولها الانجاب مجبر وعاطفة الأبوة الجياشة تغالبنى وفى عقر دارى, لتثور ثأئرتها فى وجهي ذات يوم وتصدني بعنف , ولتختار بعدها وأنا غير مصدق الفراق بعيداً عنى , وفى صمت محير وهدوء عجيبيين وبدون وداع ..

    لأنها بصراحة كانت تفلسف الامور ببساطة شديدة وتقول بأنها , لا تحب فى مثل هذة الظروف والمواقف بالذات وداع من تعزهم , وأنا فى غربة سنين بعيدا عن بلادي وأهلى .. , وفى مسيس الحاجة اليها بالطبع وفى كل شىء تقريبا ..

.

أذكر كل ذلك كان ببساطة ذات مساء يوم مشمس , غير عادى جئت مرهقا ومشيا على الاقدام ألاف الأميال من غرب " قجام " , بعد أيام وليالى طويلة ماطرة , والانتهاء للتو من مشروع تدريبي خلوي قاسي , ومناورات وأسعة بالذخيرة الحية لتفاجئنى على حين غرة المرأة العجوز صاحبة المنزل الذى نستاجرة , الجدة " اللميتوا " قائلة فى تحسر وبامتعاض :

ـ أخذت يا أبنى .. حاجياتها ورحلت باكراً الى مكان ما فى الجبهة ... لم أعد أذكرة الان بالضبط هل هو فى " أقلاقوزاى " أو" دك أمحرى " , لتواصل حديثها وهى تصف لى ربما مؤاسية , وبحزن دراما مغادرتها الموجعة لى شخصياً .. , للحقيقة ومنذ سكنى هنا وهذة العجوز الشمطاء , لا تكف أبدا من أن تلهبنى دائما بسياط لغوها وثرثرتها لدرجة لاتحتمل , كما أنها لا تبشر عادة بأخبار سارة الا نادراً جدا ، أخبارها كلها مفجعة وسليطة لسان والكل يتجنبها الا أنا .. , كانت تعجبنى دائما بثرثرتها البانورامية للأحداث, وتعليقاتها اللاذعة والموغلة فى الغرائبية واللامعقول, وطريقة وصفها للأشياء المستحيلة التصديق , بتهكم متصنع قالت لى:

ـ كانت فى عجلة من أمرها والعربة تنتظرها .. لم تترك ياكافى المحن أى رسالة أو شىء من هذا القبيل .. ولكن وأحقاقا للحق كانت بنت بلد أصيلة .. لم تأخذ أى شىء معها ... " , كنت لحظتها أتندر داخلي بغبن وأقول:

ـ " يكفى أنها أخذت يا " خالة " معها .. قلبي وعقلي .. وحتى عمري .. اا" , بل الذى يبدو لى الان تماما بأن هذة العجوز قد وجدت ضالتها , لتنفس هى الاخرى عن كوامنها بطريقة أو ما , لهذا لم تتركني لشأني غير أن تؤاسينى وربما بطيبتها وأنا لا أدرى , ولتقول لى بعدها مستبشرة:

ـ ذهبت على ما يبدوا .. وتركت لك يا أبنى...الجمل بما حمل .., فأنت فى هذة الحالة بالذات المنتصر عليها .. " , هكذا يفكر أمهرة الشمال دائما ...

ولكننى قلت داخلي بتوجد وحسرة:

ـ ".. انتصاري عليك يا " تسهي " .. وبكل المقاييس هزيمة .. بل هزيمة وكما يقولون فادحة ومره كالعلقم ..اا " , وبدوري شرعت بعدها فى فك أرتباطي بأثيوبيا كلها وطلبت النقل فورا لجهات معسكر " أتيانق "أو" البيبور" , لاستشف بعيدا عن كل هذة البلاد المسحورة بحق وحقيقة .. .

لم أنتظر بالطبع أجابة من أحد كان كما أننى لم أتحمس لفكرة البحث الجاد عنها لارجاعها , لاننى أعرف بأنها ستتخفى عنى بعيداً فى يوما ما قريب لأنها مسيرة , ولم تختار لى شخصيا مثل هذا الفراق الهادئ والداؤى والمحزن حقيقة , ولكن هناك أناس بعينهم من المستحيل تسميتهم الان .. , وأخلصت فى ودهم وخدمتهم والتضحية بالدم والروح من أجلهم ، لم ولن يتركوني وشاني هكذا لأعيش هنياً وأسعد معها هى بالذات , ولكنهم خفيه وبعيدا عنى عقدو العزم أن يجازوني ذات يوم وبحجم جزاء سينمار وأكثر , ولكن متى وأين .. وكيف ؟؟ فهذا ما لم أستطع أنا نفسى , خبير التكتيك الملهم حتى معرفتة ..

ولان قلب المؤمن دائماً دليلة كما يقول المثل ، فقد أستشفيت بعض من مبررات هجرها الغير مستساغة بالنسبة لى أبدا , والتى تمت على نار هادئية كما يبدوا وباكثر مما أتصور , فقلت داخلي بحرقة:

ـ " على أى حال .. لا عزاء دائما للغرباء ... وبالطبع من خرج من دارة صحيح . قل مقدارة ومهما كان ... , ثم وهكذا الدهر يا سعد .. " والكثير .. الكثير والموجع , كما أحلف على ثقة وصادقا وحتى الان بأنها لم تختار وعلى المستوي الشخصي البحت كل هذا البعاد والفرقة , ولكن هناك ثمة من يغير على مجرد حبي وارتباطي بها بشىء من الريبة والتوجس, ثم كيف حتى يسمح مثل هذا التعيس لنفسة كائن من كان , وهى زوجتي مجرد الغيرة والغبن المستتر وفى ذلك كلة ..

وعدم رضائهم لمثل هذة الزيجة الغير متكافئة فى نظرهم هم وحدهم على الاقل, وشططهم لرفيق كفاح طويل ومرير , أنة بالتأكيد شعورغير سوى بتضخم الأنا , وغير مقبول ووحشي وحاجز نفسى عالي بالغبن للآخر ، فرغم أخلاصي وتضحياتي الجسام بالدم والروح من أجلهم ومن أجل قضيتهم , الا أنة غير مقبول أطلاقا ومهما كنت وأنا الغريب , وهى سليلة الدماء الزرقاء فى أعرافهم وأساطيرهم الشعبية القديمة , وهذا فى حد ذاتة خط أحمر عندهم , فشتأن حتى ولو أن تذهب الى قبرها ودوني , وأن أمسس .. وأنا حتى زوجها شعرة من رأسها , هذة هى دوما الكبرياء والشوفينية الانسانية الممقوتة , والضحلة التفكير والى يوم ولحظة , النفخ فى الصور والإعلان الداؤوى والأكبر ,.." اليوم لا أنساب بينكم " ..

-4-

كانت بالطبع قد أختارت بطريقة أو ما , أن تمارس مجبرة مع سبق الاصرار رحلة النزوح والانزواء بعيدًا , وفى دور آخر مختلف ومرحلة أن تهرب وتعيش منطوية أو لاجئة بلا هوية تماما , ولأقول لنفس تب لك أيتها التضحيات .. والمجاهدات ..., ثم أستصرخ وأكرر وأقول بعناد لهيئة القيادة المصغرة فى " جوبا " و" فشلا " :

ـ أرجوكم أخرجوني من هذة الأحراش الظالم أهلها .. " , فاستجابوا لنقلى أخيراً جدًا وبعيداً منفياً أو مغضوب على , ولطيبة الذكر " الخرطوم " عموم نفسها , وأنا لا أعلم ولسخريات القدر بأنها هى وبشخصها الأثر , وبكامل حضورها والقها الجميل والملفت للأنظار , تقاسمني العيش فى الخرطوم نفسها بلدي ومسقط رأسي , ولايفصلنا بالكاد غير شارع أفريقيا , وهى تعلم كل ذلك وأنا يومها مدير شعبة عمليات أمن الظل فى الخرطوم الكبرى نفسها , ووريث أصيل لمكوين باشا واللواء ضيف اللة وفى ضبط وربط ومهنية اللواء المعروف رصاص , .. ومع كل ذلك آخر من يعلم, ولكننى تفهمت بعد ذلك حيثيات عيشها متخفية بالخرطوم , وعملها الجديد كنادلة وهى تنسي نفسها بأنها فى الأساس طالبة جامعية "فايلنست " أي نهائي هندسة معمارية , وبإحدى منتدياتها الحديثة الراقية , تحزق ببرمكية تحسد عليها فنون القهوة الاثيوبية وطقوسها الموغلة , فى الأصالة والتراث العريض .. ، كانت مختلفة ومدهشة وفى كل شىء وتسحر أنظار الرواد , من الهائمين حولها حدثني ذات يوما عنها أحد شباب شارع كترينا والخور, وباستعجاب يحسد علية وقال لى مبهوت : :

ـ " أمسك الخشب يا صحبي انها " آنا ريكو " الاخرى ، بل وما كنت أعرفة عنة هو بالذات بأنة كان متزن كليا وزاهد وملتزم , وقلبة معروف بعصية ولكن عندما حدثني عنها بشقف ولهفة , وأعترف لى بكامل حضورة بأعجابة المزهل بها ومن اللحظة الاولى , قلت لة :

ـ " أكيد أنها وربما تكون يا صحبي " تسهيئ " تلك التى أبحث عنها .. وقالوا لى كلهم مرجحين رائي بأنها ربما تكون بالخرطوم عموم نفسها وانت لا تدرى ؟اا " ، بالطبع أندهشت يومها ووقفت مبهوتاً ومشدوها عندما وأجهتها وجها لوجه , وهى تنكرني ومن حولي فى حيرة وحرج شديدين , وأنا السهل الممتنع أعزرها وعندما أتنازل واقول لها داخلي:

ـ " أخيراً مرحباً بك فى بلدك الثانى السودان .. ورغم أنكارك لى أين ستهربين منى بعد اليوم ؟" , لاوأصل القول وهى مستعجبة وتكاد تسمعني :

ـ " كما أننى بطريقة أو أخرى ومنذ اليوم .. لن أفرط فيك مرة أخرى أبداً.. أبدا .." , أنتبهت لنفسي وهى ما زالت مشدوهة لبرهة زمن , ولتستعيد فى ثواني ثباتها , وهى الحديدية الأصل والثبات وسيف لحاظها معروف ومجرب , ولتعيدني وأنا الملتبس على مضض لتودعني فقط أمانيها العذبة الان للهجرة والمغادرة بعيدا والى عوالم أفضل ًوأرحب وكما تزعم , تنتظر كالكثيرين كرت زيارة لملاذ أوربي أمن , كما أشاعت بذلك مرارا ولم أصدقها .. ، كنت فى الحدود مسؤول الارتباط الاول وألان معروف بينهم جميعا بالمهنية والانسانية .. والتجرد والنزاهة .. .

يتبع -2- ,,,

الخرطــوم – حديقة أوزون

10 /1/2013م
من مجموعةالقصص الصغيرة الاولي :(1)  كونشيرتو فرانسو للروائي: فتحي عبد العزيز حكاد
الكاتب والروائي فتحي عبد العزير حكاد