القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

ممكنات الدلالة وتجربة المعنى قراءة تحليلية في نص الوتر والظل للكاتبة التونسية زينب بوخريص للناقد/ حيدر الأديب

ممكنات الدلالة وتجربة المعنىقراءة تحليلية في نص الوتر والظل للكاتبة التونسية زينببوخريص



الإنسان كائن رمزي بوصفه قادرا على تحويل الفعل والشيء الى صياغة يكون فيها تحقيق الغايات ممكنا
فهو بهذا النظام العلاماتي يخلق العلائق الدلالية كون المعنى يمكث فـــــــــــــي تجدد هذه العلائق وتخليقها
سنرى في هذا النص كيف احالتنا العلائق عبر رمزيتها الى معنى محكوم الى تحول دلالي
لغة النص لغة واصفة وواضحة وتتكفل هذه الدراسة بالإجابة عن السؤال التالي
كيف تدرس نصا واصفا؟ وكيف تطرح أسئلة المعنى عليه؟ كيف توصل النص الى المعنى؟ وما هو المعنى
كيف يتم التعاقد عليه فالمعنى ليس حصة جاهزة من الواقع مودعة فــي لغة ولا هو حصيلة تعبيرية نقطفها
من النص المعنى هنا ما تحركه الأنساق في اللغة والنسق تاريخ مخبئ في معجم المفردة / الفكرة وهذا التاريخ هو ما يحدد المدى الدلالي استعمالا والتأويل هو ما يعيد خلق هذا الإستعمال
ما الذي يؤسس المسافات الحقيقية بين الشيء في نفسه وبين الشيء في ممكناته الأدبية وحيث تكون اللغة هنا الوسيط الأشد خطرا في التلاعب بمقاسات المعاني والتسلل الى شعورنا لترويضه نحو هذه المقاسات. ان هذه المقاسات هي مقاسات متغيرة وهي ما يطلق عليه بالنص الادبي كونها تولد قراءات لا تتطابق مع الواقعة (او بما يمكن ان تتوقعه منها في الوعاء الاجتماعي) التي يتحدث عنها النص لأنه ليس نصا مرجعيا يمكننا ان نصححه وفق الواقعة (الشيء في ذاته) يقول كارلهاينتس شتيرل (يسمح كل نص مرجعي بالتصحيح استنادا الى الواقع فان النص الادبي يترك بينه وبين الشيء الذي يعطى – فاصلا- وهذا الفاصل غير قابل للتصحيح بل هو قابل للتأويل أو النقد فقط.
ان ما نعنيه بعدم قابليته للتصحيح هو (ادبيته) لان الادبية كما افهمه هي التوقعات والمتجهات الغير محسومة
ان ما نعنيه بعدم قابليته للتصحيح هي شروط انتاجه في تجربته الذهنية والنفسية فأننا حين نزعم بإمكانية تصحيح نص فإنما نصحح قياسا الى قيمة أخرى تواضعنا عليها انها قيم مبرهنة سلفا ولكن السؤال هنا ما هو قياس البرهان؟ ان الادب وحده هو الحقل الذي يتقصد المغالطات دائما باعتبارها تمنح فرصة الأوجه الأخرى التي منعتها اقيسة المنطق كيقين مطابق للواقعة او الحادثة ومن طبيعة الادب انه يمتاز بتوظيف المغالطة كنهج خصب في تفعيل المحتملات بالإضافة الى تجريب المتخيل (ماذا لو كان هذا؟) وبهذا فأننا ان بحثنا عن معقولية نص ما فقد حكمنا عليه باليباس ثم الموت
وبتوضيح اخر يقول بوري لوتمان (ان النص الفني يقدم معلومات مختلفة لقراء مختلفين كل حسب فهمه كما انه أيضا يقدم للقارئ لغة يستوعب من خلالها الجزء الموالي من المعلومات خلال القراءة الثانية) وبالتالي فطبيعة النص الادبي نفسها تستدعي فعلا تأويليا وابداعيا من جانب القارئ مما يطرح في آن واحد مشكل الذاتية والموضوعية حيث تعني الموضوعية هنا البحث في قصد المؤلف أو تمثلات قصده في التجارب التي تشابه تجربة النص وظروف انتاجه بينما الذاتية تعني قدرات القارئ باعتباره المسؤول عن إيجاد المعنى وانه القطب الجمالي الذي يسمح للنص بان يتعدد في مشارب الدلالة
وانت تتوجه كذات ناقدة الى /الاخر/ الذي هو هنا ( مساحات مكتشفة ) فلن تنجي الذات الناقدة ذريعة ( الحسنة والسيئة ) لأن الأمر يتوغل الى اعمق من ذلك منبها بعمقه الى إعادة النظر في مفهوم الحسنة والسيئة فالذات الناقدة اذا حكمت بقطع ان النص حسن او سيء فهذا يعني انها تؤسس لها فضاءا مرجعيا والحق انها تمارس عماءا لوعي ذاتها فاذا مدحت النص فهذا يعني انها حازت ما يلبي توقعاتها لأن المدح هو تكوين وعي موجه بفعل نقص الذات الناقدة الى مكملاتها في النص واذا قامت هذه الذات بذم النص فانها مارست الغاءا لشروط ابداعه وحريته وانسانيته والذم هو وعي وصائي موجه للنص بفعل وهم القيم الناقدة لأن ( المفردة / الفكرة ) هي تاريخ طويل في ذهن الكاتب وتاريخ مراقب من قبله قد يصل لشهور وهو يتعايش في ( المفردة / الفكرة ) حتى يصل الى نص تتقبله اللغة واللغة هنا عميل مزدوج سيء السمعة لأنها لحظة تقبلها تاريخ ( المفردة / الفكرة ) لدى الكاتب فانها تولد تاريخا موازيا هو ذخيرة المتلقي واصواته الداخلية تجاه هذ ه ( المفردة / الفكرة ) وهنا يقع الناقد في محنة التعاقد على المعنى بين تاريخين وتنصرف الحسنة والسيئة الى كونها واجهات تمثل موجهات الوعي وكي يأوي النقد الى جبل يعصمه من الوقوع في فخين تاريخيين للمعنى عليه ان يعي ان ماهية النقد ( فلسفيا ) هي السعي لأمتلاك حقائق النص المكتشفة بقصد التكامل لا بقصد اثبات مرجعية الكمال للنقد
يرى بلو مفيلد (ان الدلالة الثانية تتأسس على علاقة ذاتية بين اللغة ومستعملها من خلال مجموعة من العوامل الانفعالية والذاتية اللامحددة التي تصاحب الدلالة التصريحية. وهي تحمل معلومات عن ذات المتكلم تتعلق بشحنات عاطفية او احكام تقويمية يمررها المتلفظ داخل ملفوظه وتقابل الدلالة الثانية الدلالة التصريحية من جهة كونها الدلالة المعجمية الاصلية والدلالة الثانية او المصاحبة هي المعنى المضاف الذي يتعايش مع المعنى الاولي في كنف اللفظ الواحد)
في الإطار نفسه ينبه كوهين ان العلاقة بين الدلالتين هي علاقة تنافر تام فلا يتأتى للدلالة الثانية ان تظهر الا بغياب الدلالة التصريحية والعكس صحيح وعليه فان المدلول الثاني لا ينشأ الا إذا استبدلنا ارتباط الدال بمفهوم بين الدال نفسه وما هو عاطفي وهكذا فان الجمل لا تبدو عاطفية او خاطئة الا من وجهة النظر الموضوعية – المرجعية لكنها تبدو تامة الصحة من وجهة نظر ذاتية انفعالية.
نحن نقول ان وجهة النظر الانفعالية هي معايشة ذوقية لتاريخ الدال في منظومة الكاتب المعرفية تنبثق كلحظة وعي وهي تحمل معنى تاما لان المعنى بحسب هايدجر هو صعود الذات من مرتبة وجودية الى مرتبة وجودية اخرى لذا فان الانفعال هو من سنخ مرتبته وهذا الانفعال هو ما ينتج المدلول الثاني الذي تربى بهذه المرتبة من الفهم ويمكن ان نتخطى مقولة كوهين في التنافر اذ يمكن ان يدل الدال على اكثر من مدلول حسب مستوى تعدد الوجوه لان الدلالة الثانية هي مرتبة وجودية غير مرتبة الدلالة الاولى وقد تكون من ذات المرتبة الا ان السياق والقرينة ترجح احدهما
بناءا على هذه المقدمة التأسيسية نرى ان هذا النص هو نص رمزي بامتياز ولكن ذكاء الوصف في بناه التركيبية وتفعيل وظائفه روّض الرمزية واستدرجها الى حقول دلالية كون النص المرمز ينفتح على قابلية التجدد والتغيير والشمول وتتعدد مدلولات الرمز بتعدد السياقات التي يرد فيها ويكون الوصف هو الضابطة الدلالية لهذا السياق الذي يكتمل فيه الرمز فنيا وهو يرث الثوابت التي انتجته وجماليا وهو يتحول الى فعالية قراءة منتجة تهذبها مهيمنات النص بعيدا عن الفوضى
يبدأ النص بوصف موضوعي راصدا علائق الرمز (الشجرة / الأشجار) عبر صفات وسمات تحيل الذهن الى أن هناك وطنا وشعبا له من الثبات والتراص والعلياء والزهو وقد ساعد السياق بما يملك من رسائل والكلمات بما تحمل من هوية يمنحها الحقل الدلالي ان هذا الشجر ما هو إلا شعب فلسطين في صراعه مع العدو الصهيوني (في سماء لازورديّة، تعالت أشجار اليوكاليبتوس الوارفة في زهو وخيلاء، مشرئبّة الأعناق تتطاول نحو عنان السماء…
متسامتة، تنتظم في صفوف متوازية… تتعانق ظلالها في مشهد حميميّ مثير…)
انتقل السرد الى صيغة ذاتية ليشير بإشارة خاطفة لكنها مستوفية للخبر عن العلاقة بهذا الوطن وقد تضمن السرد الذاتي المسّرع الكلام عن حال الشخصية والوطن (الشجرة)
(قضيت طفولتي البعيدة لاعبا في جنتي الوارفة الأفياء. لازمتها حتى نمت بيني وبينها صلاتٍ متينةً: أصبحنا صديقين حميمين. أبثها أسراري وأناجيها معظم أوقاتي.
محبوبتي تأخذ قبسا من نور الشمس الوهّاج، مغدقة على محيطنا بسخاء، مانحة نفسها للجميع…مرحبة بمن يستظلّ بها.
مفتونا بقامتها الفارعة، كنت أنظر إليها بإعجاب شديد.
ناجيتها قائلا:
-ما أجملك! ليت لي سموّك وجبروتك، تمكثين في عليائك غير عابئة بصغائر الأشياء، ترنين إلى الأعالي في كبرياء…)
ان العلياء والكبرياء والحميمية والسخاء والقامة الفارعة وعطايا الظل والجبروت والسمو تكررت في السرد الموضوعي والذاتي وهو نوع توكيد موزع لبيان هوية الوطن في تجذره التاريخي ورسالاته السماوية وانه وطن الكل وهذه الصفات هي نمط اشاري الذي اتخذ شكلا اخر وهو يبث رسائله في توصيف العدو برسائل مركز ومفلسفة فهذا العدو (عمّال كثر يرتدون زيّا موحدا… كأنهم وحّدوا قوى الشر جمعاء لإجتثاث أسباب الحياة) ولاحظ عبارة الزي الموحد وقوى الشر وإجتثاث أسباب الحياة هو وصف تدخل فيه السارد ليصف هوية العدو وهي هوية مضادة ومعاكسة لهوية الوطن الشجرة (مغدقة على محيطنا بسخاء، مانحة نفسها للجميع…مرحبة بمن يستظلّ بها.) هذه الهوية الاثمة لم تتلقى سوى تفرجا وسكوتا من الراكضين ولم يتعرض السرد لوصف السكوت بل استخدم حذفا معولا على الوقع في اكمال الدلالة لكنه وجه رسالة الى هذا العدو ولم يكن يعني تذكير أو تفهيم العدو بما يصنع فالعدو وانما هذه الرسالة هي المشهد الكارثي الذي يتكرر لهذا الوطن والمترسخ في ذاكرة الراكضين دون تقديم أي خطو تذكر (كفوا أيديكم الآثمة عن أشجاري السّامقة، إن اقتلعتموها فإنكم تقطعون بذلك أوصالي، وتمزقون شراييني. ارحلوا يا أعداء الحياة!
غير عابئين بتوسلاتي أعملوا كمّاشاتِهم في شرايين الأشجار المعمّرة…) (أسمع أنّاتها المكتومة أو أصغي إلى نحيبها الصّامت. كانت مذبحة فظيعة…)
هكذا يتقطع الوطن وأوصاله أمام ركض زائف سوى ركض أهله وصموده هو على مر العصور
يعود السرد بشكله الموضوعي ليكمل صورة الوطن (الشجرة)
(متشبّثة بالحياة، اٌستعصى عليهم استئصالها، قاومت ببسالة. تمسكت بجذورها ولم تنحنِ لجلاّديها…
كان مشهدا بطوليّا حقيقيّا، خاضت فيه الأشجار ملحمة خالدة من أجل البقاء)
وقد تركز هدف النص ورسالته الخالدة في (وحدها الأشجار لم تذرف دمعة واحدة..) وأنها معمرة
ان النظام الترميزي والإشاري هو من كافئ وضوح النص وسهولته فالرمز ليس بغموضه وانما بإحالته على مباهج المساحات المدهشة من المعاني وحتى الرسائل القصيرة هنا هي علامات اشارية على سلوكية وتاريخ هذه العدو لو أردنا التوسع لرأينا التناصات في التاريخ وما حفل به القرآن في وصف الحياة وأعداء الحياة وأبرز مصداق لهم هذا العدو الغاشم
كان الظل موهبة من مواهب الوطن وكان الظل هو صوت الراكضين الذي لم يتحقق في تخليص الوطن وكان الظل هو تاريخ هذا الوطن العملاق
والوتر كان هذا العزف المؤلم الموجع والراسخ في إحساس الإنسانية
يقابله وتر عذب هو لحن الأنبياء الشامخين فكل وطن هو نبي شامخ (وحدها الأشجار لم تذرف دمعة واحدة..)
هكذا يمكن ان نجرب المعنى لا أن نقوله في متن النصوص فالتأويل يسعى لأن يعيد المقاصد لا ان يكتشفها
يعيدها في مقاربة مقترحة لأن الدلالة أكبر من معناها
حيدر الأديب

النص

الوتر والظّل
في سماء لازورديّة، تعالت أشجار اليوكاليبتوس الوارفة في زهو وخيلاء، مشرئبّة الأعناق تتطاول نحو عنان السماء…
متسامتة، تنتظم في صفوف متوازية… تتعانق ظلالها في مشهد حميميّ مثير…
قضيت طفولتي البعيدة لاعبا في جنتي الوارفة الأفياء. لازمتها حتى نمت بيني وبينها صلاتٍ متينةً: أصبحنا صديقين حميمين. أبثها أسراري وأناجيها معظم أوقاتي.
محبوبتي تأخذ قبسا من نور الشمس الوهّاج، مغدقة على محيطنا بسخاء، مانحة نفسها للجميع…مرحبة بمن يستظلّ بها.
مفتونا بقامتها الفارعة، كنت أنظر إليها بإعجاب شديد.
ناجيتها قائلا:
-ما أجملك! ليت لي سموّك وجبروتك، تمكثين في عليائك غير عابئة بصغائر الأشياء، ترنين إلى الأعالي في كبرياء…
في غبش يوم من أيّام شهر آذار، استيقظت فزعا على وقع صراخ محموم:
-هبّوا لنجدة الأشجار، سيقتلعونها وينشئون مكانها عماراتٍ شاهقة…
خلته أضغاث حلم مزعج اقتلعني من سريري الدافئ، بيد أنّه كان أفظع كابوس عشته.
ركضت مع الراكضين على مضمار الخوف المقيت، توقفنا مذهولين أمام كمّاشات ضخمة وشاحنات عملاقة وعمّال كثر يرتدون زيّا موحدا… كأنهم وحّدوا قوى الشر جمعاء لاجتثاث أسباب الحياة…
مذعورا، نظرت إلى الأشجار الواقفة في عنفوان، صامدة صمود أبطال شجعان أمام جيش العدو العنيد بترسانة أسلحة فتاكة… في معركة شرسة.
انتفضت صارخا:
-كفوا أيديكم الآثمة عن أشجاري السّامقة، إن اقتلعتموها فإنكم تقطعون بذلك أوصالي، و تمزقون شراييني. ارحلوا يا أعداء الحياة!
غير عابئين بتوسلاتي أعملوا كمّاشاتِهم في شرايين الأشجار المعمّرة…
متشبّثة بالحياة، اٌستعصى عليهم استئصالها، قاومت ببسالة. تمسكت بجذورها ولم تنحنِ لجلاّديها…
كان مشهدا بطوليّا حقيقيّا، خاضت فيه الأشجار ملحمة خالدة من أجل البقاء.
جرح كبرياء العدو الغاشم، فأعاد الكرة مرّاتٍ ومرّاتٍ..
عند الأصيل، قرروا أن يفصلوها عن جذورها انتقاما وتشفيًّا…
أصخت علّني أسمع أنّاتها المكتومة أو أصغي إلى نحيبها الصّامت. كانت مذبحة فظيعة…
في تلك الليلة بكت السماء مدرارة، وبكى أهل القرية بكاءً مرًّا بعد المجزرة الغادرة، وحدها الأشجار لم تذرف دمعة واحدة..

الناقد حيدر الأديب

مواضيع ذات صلة 


ممكنات الدلالة وتجربة المعنى قراءة تحليلية في نص الوتر والظل للكاتبة التونسية زينب بوخريص للناقد/ حيدر الأديبA critical study
ممكنات الدلالة وتجربة المعنى قراءة تحليلية في نص الوتر والظل للكاتبة التونسية زينب بوخريص للناقد/ حيدر الأديبA critical study