القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

دراسات ج2 : للدكتور: بشير ضيف الله...إيقاع التكرار...عن : بنية الإيقاع الشِّعري و أشكالهُ الأسلوبية.

تكملة لـ:بنية الإيقاع الشِّعري و أشكالهُ الأسلوبية

2.1. إيقاع التكرار:
"التكرار" في اللغة من الكر بمعنى الرجوع، ويأتي بمعنى الإعادة والعطف، يقول "ابن منظور":
<< الكرّ : الرجوع يقال كرّهُ وكرّ بنفسه… والكر مصدر كرّ عليه يكرُّ كراً و كروراً و تكراراً: عطف عليه وكرّ عنه: رجع… وكرر الشيء و كركره: أعاده مرة بعد أخرى. فالرجوع إلى شيء وإعادته وعطفه هو تكرار..>> (22).
ويقابل كلمة "تكرار" في اللاتينية كلمة Repetition بمعنى يحاول مرة أخرى والمأخوذة من Petere التي معناها يبحث.

أما في الاصطلاح فهو تكرار الكلمة أو اللفظة أكثر من مرة في سياق واحد لنكتة إما للتوكيد أو لزيادة التنبيه أو التهويل أو للتعظيم أو للتلذذ بذكر المكرر(32) كأنْ<< يأتي المتكلم بلفظ ثم يعيده بعينه سواء أكان اللفظ متفق المعنى أو مختلفا، أو يأتي بمعنى ثم يعيده. وهذا من شرط اتفاق المعنى الأول والثاني، فإن كان متحد الألفاظ والمعاني فالفائدة في إثباته تأكيد ذلك الأمر وتقريره في النفس وكذلك إذا كان المعنى متحدا وإن كان اللفظان متفقين والمعنى مختلفا، فالفائدة في الإتيان به الدلالة على المعنيين المختلفين>>(24) ، و لا يقتصر على الأثر الأدبي، وإنما يتعداه إلى كل ما يتعلق بحياة الإنسان من تصرفات و سلوكات مختلفة (25) ، غير أنَّ أثره في المنجز الفني و الشعري تحديدا يبقى له وقع خاص حيث<< يجد مشروعيته في الانزياح الناشئ بين الموضوع و تشكلاته الجديدة>>(26).
إنَّ توظيف الشعر للتكرار يجسد ذلك التقاطع القائم بينه وبين الموسيقى –كما سبقت الإشارة إليه-فالقطعة الموسيقية قائمة على التكرار باعتباره << ظاهرة صوتية تميزت بها القصيدة الحرة، وهو إلحاح على جهة معينة في العبارة يعني بها الشاعر أكثر من عنايته بسواها ، وكذلك يسلط الضوء على نقطة حساسة في العبارة ويكشف عن اهتمامه بها>>(27).
إنَّ غاية "التكرار" الأسلوبية بوصفه من أبرز أشكال "الإيقاع" هي <<الإتيان بعناصر متماثلة في مواضع مختلفة من العمل الفني، والتكرار هو أساس الإيقاع بجميع صوره، فنجده في الموسيقى بطبيعة الحال، كما نجده أساسا لنظرية القافية في الشعر، وسر نجاح الكثير من المحسنات البديعية كما هي الحال في العكس، والتفريق والجمع مع التفريق ورد العجز على الصدر في علم البديع العربي>>(28) وهو ما يجعله عنصر ارتكاز في ضبط وتحريك فعل "الإيقاع" بكل مستوياته في النصوص الشعرية بما يحفظ للنَّص انسجامه و اتساقه الذي يتعداه إلى البنية الدلالية فيما بعد نتيجة لما يقدمه هذا العنصر من بدائل إجرائية مختلفة ومتنوعة تمنح الشاعر فرصا أوسع للتجريب و الحفر وإبراز مدى عمق وسعة التجربة الشعرية التي تختلف من شاعر إلى شاعر بحكم خصوصيته القائمة على ثنائيتي التَّماثل والتغاير بما تحققه من حراك وتنامٍ. 
و"التكرار" <<يحدث تيار التوقع ويساعد في إعطاء وحدة للعمل الفني ومن الأدوات التي تبنى على التكرار في الشعر: اللازمة، العنصر المكرر، الجناس الاستهلالي، التجانس الصوتي، والأنماط العروضية..>>(29) بل أنّ هناك من ذهب إلى التأكيد على أنه << لا يستقيم قول شعري إلا به، و لا تتحقق طاقة شعرية بدونه. >>(30). 
1.1.1. نظام التكرار:
يقابل "التِّكرار" بمفهومه الحالي "التوكيد" في الفكر النقدي القديم الذي أفرغه من بعده الإيقاعي وجعله حكرا على الجانب الدلالي، و التقاطع الحاصل بين الشعر والموسيقى أوجد مجالا للتفاعل والإفادة من الموسيقى بما يخدم الإيقاع في النَّص الشعري مما يبرز الصِّلة الوثيقة للتكرار بالإيقاع وهو ما يظهر بجلاء في النصوص الحداثية التي ذوَّبت الفوارق واستثمرت كل الممكنات الموسيقية المتاحة التي لم تعد حكرا على الأوزان الشعرية وما تولده من إيقاع خارجي محدد، وإنما أوجدته في<< تقطيعات وفي توازنات لا متناهية..في التقابل و التشاكل، في التكرار على أنواعه: 
التكرار لحروف بذاتها، أو لكلمات، والذي هو تكرار لأصوات، لمسافات زمنية لغوية، وقد يكون اللفظ كما قد يكون المعنى هو حدود هذه المسافات أو فاصلتها>>(31).
إنَّ أهم فتح يُحسب للقصيدة الحديثة كسرها للحواجز و النمطيات والقيود التي تحد من دينامية اللغة و التخييل، و توظيفها تقنية "التكرار" كعنصر إيقاعي على شكل <<إعادة الفكرة باللفظ متنوعة أو بالألفاظ نفسها أحيانا..>>(32) ، لأنَّ توظيفه بالشكل الأنسب رهين بالتجربة الشعرية ووعي الشاعر بدور هذا العنصر الذي قد يكون عامل رتابة ونفور إذا لم يوظف توظيفا إبداعيا ، فهو: << يعطي الكلمة وزنا في البداية ويجعل الوعي يتوقف عندها، ثم ما يلبث أن يفقدها وزنها كأنها لم تكن ، لتعود هيمنة الإيقاع وجمود الحركة على الفضاء الموسيقي للقصيدة >>(33).

2.1.1. أشكال التكرار الإيقاعي:
لا يمكن حصر أشكال "التكرار" خاصة مع تعابر الشعر والموسيقى من جهة، وإفادة النَّص الشعري الحديث من هذا التفاعل بحيث يكون للتجربة الشعرية أثر واضح في تحديد أشكال "التكرار" التي يوظفها الشاعر، وهو ما يعني أنَّنا قد نكتشف أشكالا تكرارية عديدة ، فهي:
<< متنوعة جداً، منها عودة لازمة على فترات منتظمة، واستعادة مقطع البداية في الخاتمة، مما يسمح للفكرة الشعرية بأن تلتف حول نفسها وتغلق القصيدة، وهكذا تشدد على انطباع الـحلقة والـدائرة المغلقة..>> (34) لذلك سأكتفي بالسَّائد منها:
- التكرار الاستهلالي: 
يشكل منعطفا دلاليا و إيقاعيا يرتكز عليه الشاعر من خلال توظيفه لفعل أو كلمة في مستهل النَّص تتكرَّر عبر كافة مراحله بالصيغة نفسها أو بصيغ متشابهة مما يولِّد حالة إيقاعية يستقبلها المتلقِّي/القارئ لها آثارها و دلالاتها و أبعادها، كقول "محمود العياري" وهو يصف لقاء حميميا :

" حين التحما .. حين اتّحدا.. حين اشتبكا... حين اشتعلا/ كان الله يدندنُ أغنية العشق القدسيّ،، و يبتسم" (35).
فكلمة "حين" أداة تكثيف إيقاعي أحدثت وقعا تفاعليا و أشركت المتلقي في فعل النص بحيث ينسجم مع تمثلاته و تحولاته فيصبح بمثابة مبدع ثان ، بالمقابل فإنّ الشاعر كرر هذه الكلمة إعلاء من شأن الحب وتأكيدا على قيمته .
ومن ذلك قول "فاتح علاق" في قصيدة (التتار) :
"سقط الشعارُ و أنت تعلو في رمادك وردةً
سقط الشمالُ و أنت تنزف في ضيائك غيمةً
سقط الجنوبُ وأنت وحدك واقف أبدا تلوبْ.." (36).

يرصد الشاعر في هذا المقطع حالةَ خيبةٍ مؤلمة يجسدها السقوط الحر من خلال تكرار الفعل "سقط" بكل ما يحمله السقوط من معنى ، محدثا بذلك رجّةً في المتلقي، محركا رغبة في التغيير و التوثُّب يمثلها الإجراء التكراري الذي جعل النَّص ككل حالة ثائرة رغم مرارة الخيبة.


- التكرار الختامي:
لا يختلف كثيرا في أثره عن سابقه إذ يمثل عامل خلوص يكثِّف من خلاله الشاعر أداءه ليركِّزه في المتلقِّي مما يجعل النَّص حالة تبدأ عند نهايتها، وتفتح هامشا آخر للتأثر والتأويل، و هو ما يجسده "نور الدين طيبي" في قصيدته (نادية):
"..والفتى بذل الدّمع من مقلتيهِ مطرْ ومضى ينتظرْ ومضى ينتظرْ ينتظرْ ينتظ.. ينتــ... ينـ..." (37).

تتردّد في هذا المقطع كلمة "ينتظر" وتتهافت بصيغة إيقاعية تنازلية من سطر إلى سطر حتى تنكمش إلى حرفين فقط عند نهاية النَّص في حركة ذكية موجهة للمتلقي بالأساس ليلتحم بإيقاع النّص السائر نحو النهاية / الخروج بما يحمله من تمثلات خصوصا و أن لا لغة تسود إلاّ لغة "الصمت" التي تُبقي التأويل مشرّعا على ما لانهاية في آخر النَّص حيث بداية ترتيب آخر لا يمكن الإلمام بكل ّ تجلياته لوجود نقاط الحذف ، وتلك حالة شعرية جسَّدها الشاعر و رصد أيقوناتها من خلال هذا الشكل التكراري ، فهو يقدم وصفاً دقيقاً للحظة الترهل بضمير الغائب /الحاضر ليجعل من الانتظار ظله الذي لا يفارقه.
وفي قصيدته (تجيئين يستيقظ البحر و النَّاسُ و الميتون) ، يمثِّل الشاعر "عثمان لوصيف" بشكل لافت هذا الشكل التكراري بقوله:
"تجيئين يا ألف مرحى
هلمّي و مرّي على شبق الفقراءْ
هواء وماءْ
هلمّي
هلمّي "(38).

لقد كانت لفظة "هلمّي" عامل خلوص يقابل ما يُعرف في النقد القديم "حسن الختام"، وهي حالة هنا حالة تهافت /هبوط إيقاعي اختياري يضع القارئ/المتلقي في الصورة حيث يدرك من خلاله قرب الختام فيصير شريكا إبداعيا شاهدا على النَّص في مرحلته الأخيرة. 
-التكرار المتدرج "الهرمي":
يقتضي هذا النَّوع تشكيلا إيقاعيا هندسيا يقف عنده الشاعر تبعا لحالة شعرية ما، بحيث تؤول الوحدة التكرارية بالتدرج إلى وحدة مركزية يرتكز عليها النص تتفاعل و تتنامى بتفاعل وتنامي الحالة الشعرية بشكل هرمي .
ولعلّ قصيدة (بلا وطن هل نعيش؟) لـِ: "علي ملاّحي" تبرز بوضوح "التكرار المتدرج" حيث شكل اسم "فاطمة" وحدة مركزية يتمحور حولها النَّص ككلّ بحيث يعرف حراكه صعودا وهبوطا تبعا للحالة الشعرية للشاعر ولطبيعة الموقف، مما أحدث تشكيلا هندسيا إيقاعيا متغيرا في كل مرة إلاّ أنه يؤول في النهاية إلى الوحدة التكرارية المركزية "فاطمة" :
"بلا وطن هل نعيش؟ التفاصيل شافية في الجبين .. وفاطمة في الحنايا اشتهاءُ أفقْ من عزاءْ و فاطمة صورة من دمٍ واضح الانتساب ........... فاطمة و النياشينُ معروضة للطلبْ، فانتسبْ فاطمة .. أسميك فيما أسميك سجادة للصلاة و زربيةٌ لاجتماع الأخوّة ................. "(39).

لقد وظّف الشاعر اسم "فاطمة" 16مرة على مدار النَّص لكن هذا العدد لم يكن عامل رتابة في النَّص بقدر ما كان حالة إيقاعية متجددة في كل مرة ، فالنَّص كشكل هندسي يُعتبر مدارا مركزه "فاطمة" تفعله وتحركه كل ما أوشك على الرتابة ما يجعل المتلقّي يرتقبُ تمثلات "فاطمة" التي يبرز فيها الشاعر كعازف ينشر ألحانه على متلقيه في انسجامٍ تام. 
و يقف "مجدي بن عيسى" الموقف نفسه في قصيدته (أواني المطبخ) حيث يتصاعد وقع كلمة "صمت" بشكل هرمي انطلاقا من السَّطر الأول في توتّر منتشر الأثر/الوقع ما يجعلها أيقونة مركزية تُكثِّف المعنى و تُحرك النَّص في كل اتجاه :
"لكأني بها الليلة تنشج في صمتْ صمتِ البيت الخالي صمتِ اللّيل صمتِ أبٍ ودّع منذ قليل ابنته في ثوب العرس إلى بيت الزّوج .." (40) 
والشَّكلان التاليان يوضحان ذلك:



- التكرار الدَّائري:
يعتمد هذا النَّوع على إحداث ثنائية تتقاطب فيها المقدمة والنهاية عن طريق تكرار الجملة الشعرية نفسها في كلا الوضعيتين مع ملاحظة أنه لا يشترط تطابق الجملتين التكراريتين تطابقا كليا، هذا التقاطب الذي يشبه عملية غلق لدينامية النَّص من الجهتين يوظفه الشاعر ليحقِّقَ متعة النَّص / فائض المعنى، ويبرز من خلاله قدراته فيشدّ المتلقِّي خطوة خطوة مع حركة النَّص و يجعله أداة تقصٍّ سرعان ما يستفيق مع لحظة الخروج/الغلق في لعبة مختلفة يرتكز عليها النَّاص تحقيقا للمتعة و تجريبا للقدرات ، وهو ما نقف عنده في قصيدة (وشاياتُ ناي) لِــ:"عبد الرحمان بوزربة" حيث استهلها في المقطع الأول بقوله:
"لك من برزخ الوقت تفاحةُ الليل والانتشاءُ لهمْ"(41): 
و اختتمها في المقطع السادس بقوله: 
" لك من وقتهم سعفةُ الوقتِ يمضي الغبارُ إلى منتهاهُ وتمضي إلى عطرها النّرجسهْ"(42)
تكراراللازمة: نرصد في هذا المجال نوعين ،النَّوع الأول يرد في بداية القصيدة على أن يتكرَّر بعد ذلك في عدد من مقاطعها على فترات تخضع لتفاعلات النَّص و تشكلاته حسب الحالة الشعرية من ذلك تكرار سطر أو جملة شعرية كلازمة يرتكز عليها الشاعر لرغبة ما، كقول الشاعرة الليبية "فوزية شلابي" في قصيدتها (أحبُّك...):
"ما أشهى هذه البرتقالة
تُسفر عن إصبعيكَ موسيقى 
وطعم المرارت 
إنها الأولى في جريدة الرّغبة الممتدة على أشغفة القلب اليساري...
.....................
ما أصعب هذه البرتقالة
تتدحرجُ في الفراغ ...
..................
ما أجمل تلك القبلة
..................
ما ألظى تلك الجمرة..." (43).
فقد تكرّرت صيغة "ما أفعله " التعجبية عبر النَّص في بدايات المقاطع الأربعة على شكل لازمة حيوية تصعد وتهوي امتثالا للحالة الشِّعرية ، وتسجّل حضورا مختلفا للتكرار.
و في نصّه(نبيذ الجرس)، يصنع "الأخضر بركة" حالة إيقاعية تصاعدية بامتياز تجعل من النص ينمو وينفتح على كل الاتجاهات محدثا خلخلة ، و توترا غير اعتيادي من خلال تكرار اللازمة "وأنت تسافر" في عملية استنفار مختلفة لفيض الغة و المعنى معا:
" وأنت تسافرُ 
لا تَنْسَ أن تملأَ العينَ ممّا تراه
وأنت تسافرُ
لا تَنْسَ أن تُفرغَ القلبَ ممّا رآه
***
وأنت تسافرُ 
حَدِّقْ إلى لُحمةِ الرُّوحِ
وهي تروحُ على ظهْر غيمَةْ
وأنت تسافرُ 
ناوِلْ حواسّكَ خمرَ التحيّرِ في ضوءِ نجمَةْ
***
إنذ هذه التقنية تحقق المبتغى إيقاعيا بإحداث توتر بهيج، ودلاليا بتكثيف لغوي متنام، ما ينعكس على المتن ككل ، فيبسط النًص نفوذه على القارئ بشكل مميز.
و في نصه (مناشير تحريضية)، يجسّد "عادل صياد" هذا الشكل التكراري على شكل جملة فعلية ابتدائية طلبية تخللت بدايات الأسطر وأعطت نسقا إيقاعيا مركّزا: 
"خُذْ بلادك واخرجْ بها للخلاءْ خذْ خصومكَ و اقض على الحلفاءْ خذْ كتابكَ،، خلّدْ صدى الأمراءْ خذْ وصيّةَ جدك وامسحْ بها... خذْ شبيهكَ سرْ باكرا في الخواءْ خذْ بقيةَ اسمك واخرج بها من على .. واستطاعتْ تفتنني خيبة الكون يا سيّد البلداءْ"(44).

أما النَّوع الثاني، فيتجسد في النَّص ولا يرتكز على بداياته ، بقدر ما يتردد عبر مراحله المختلفة ، كقول "عيسى قارف" في قصيدته (ثلاثة أبيات إلى نورة):
" ناديتُ نورا فلما لم تجب نورا 
أوصدتُ قلبي فهاجت في دمي نورا
حتّى تغشّتْ ظلام العمْر واشتعلتْ 
في ظلمة العمْر نورا زادني نورا 
والكهفُ قلبي ، وكلّي فتيةٌ رشدوا
فرتّل الكهفَ و اقرأْ في دمي النّورَ"(45).

توزعت اللاّزمة "نورا" على أبيات القصيدة الثلاثة وفق الترتيب 3، 2، 1، مشكّلة ً حدثا إيقاعيا لافتا يبرز من خلاله الشاعر شعوره اتجاه من يحبّ، فكانت اللاّزمة وسيلته و أداته الإجرائية لتبليغ مراده، وتحسس انفعالاته صعودا وهبوطا فالشاعر هنا يعكس أهمية ما يكرره مع الاهتمام بما بعده حتى تتجدد العلاقات وتثرى الدلالات وينمو البناء الشعري(46).
ولا يختلف كثيرا الشاعر الليبي "مجاهد البوسفي " في نصّه (بيان خاص و عادي):
" ليس كثيرا أبتغي فقط أن يُحظى هذا القلب بشيخوخة هادئة قرب حبيبته التي ألهته سنوات النزق عن أن يقول لها –بعد خجل حنون- أحبّك
أبتغي فقط : أن يتّسع القلب ... .................. أبتغي فقط : قليلا من الوقت النقي كخيط الضّوء ... أبتغي فقط : .................. أن أطيح بهذه الجيوش بنبضة قلب واحدة أحبُّكِ... ............." (47).

إنّ اللازمة "أبتغي فقط" تردّدت داخل النَّص و لم يستهلّ بها الشَّاعر متنهُ، و إنما تبدو كعلامة بارزة تؤثثــُه و تستجمع أنفاسه كلما انتهى إلى ملاذ آمن، لينبثق من جديد.
- التكرار التراكمي:
يتَّخذ هذا النَّوع بعدا لُغويا/ لفظيا كاستعمال مفردات بعينها أو أسماء أو أفعالا أو حروفا لصياغة مستوى دلالي وإيقاعي مؤثِّر، على أن لا يكون لهذا "التكرار" موقعا محددا في النَّص، فهو يخضع لما تقتضيه الحالة الشعرية وما يفترضه نسقها الإيقاعي الذي يتشكل كلما أوغل النَّص في تنويع "التكرار".

إنَّ هذه التنويعات التكرارية سواء كانت معجمية، مجازية، صرفية، نحوية يبقى الصوت مادتها الرئيسية ، ومحركها الحافل بالابتكار والتفاعل. 
أ/- تكرار الوحدات المعجمية:
يقوم على أساس الحقل الدلالي المتماثل <<إذ تستدعي الوحدة المعجمية مثيلتها لتعمق الوصف و تؤكد التعبير>>(48) ، وبذلك فهي تدعم الخيارات العروضية للشاعر وتشدُّ من عضد المعنى/ الموقف الذي يريد الوصول إليه في خضم النَّص. 
و لا يقتصر هذا النَّوع على "التماثل" فحسب، وإنَّما يقوم على التقابل أيضا على شاكلة "الطباق" مثلا .
وكنموذج شعري، أقف عند قصيدة (السبّابة) لـ: "أحمد عبد الكريم" حيث وظّف فيها "الألوان" كحقل دلالي له حضوره الإيقاعي في النَّص:
" ذا بيرقي أسود والمدى أحمرُ .. ............. فقد علمتني القصيدة كيف أهندسُ مملكتي القرمزيَّة أبني عروشي على الماء لمّا أحوّمُ في برزخٍ أزرق. ها فمي ضالع في فصوص الكلام المطرّز بالكستناء..." (49).
لقد استثمر الشاعر في حقل "الألوان" على تنوعه ليمنح النَّص حراكا إيقاعيا مطرّزا يجذب المتلقّي، ويجعله يوقع حضوره في النَّص، فالأسود والأزرق و الأحمر و الكستنائي وحدات معجمية لحقل دلالي واحد أضفت نسقها على النَّص. 
ب/-تكرار الصيغ الصرفية:
للصيغ الصرفية دور بارز في التشكيل الإيقاعي للنَّص الشعري ، فهي << على خلاف الوحدات المعجمية من أصناف التكرار التي تتشاكل في البناء و تختلف في الدلالة وهذا ما يجعل دورها مخصوصا بسمات تميزها..>> (50)، ويتجلَّى ذلك في توظيف:

.الصفة المشبَّهة: إن التنوع الذي يميز أوزان "الصفة المشبهة" يجعل منها ممارسة تكرارية بامتياز بحيث يتنوَّع "التكرار" نظرا << لتركيبتها الصوتية و وزنها و دلالتها في وسم النص بالترجيع والمعاودة التي تمثل إحدى خصائص الإيقاع..>> (51). 
.صيغ الجموع:
الجموع باختلاف صيغها تشكل وحدات تكرارية من شأنها إضفاء حركية في النص فهي تسم ُ<< التكرار بالتنوع والتناوب في جريان الصيغ مما يثري التشكيل الإيقاع ...>> (52). 
.المصدر: 
المصادر بأنواعها يمكن أن تؤدي وظيفة إيقاعية وجمالية في الوقت نفسه، فعندما يتواتر مصدر بعينه، فإنَّ ثمَّة تشكيلا تكراريا يؤدي الوظيفتين الإيقاعية و الدلالية نظرا لقوَّة المصدر ووقْعه ، وحضوره و دوره في إحداث الارتداد الإيقاعي.

وكنموذج لهذا الشكل التكراري ، أقف عند نص (فلسطين المنكوبة) لــ: "فاطمة أحيوض" حيث تتنوع الجموع وتشكل زخما إيقاعيا عبر كافة مراحل النَّص:
"فواجع رهيبة وسط شارع الأقنعة جروح دامية ......... هل من مارة؟ هل من بصمات الأيتام تنهمرُ أشعاري؟ سألت الأموات سألت كل بقايا الآهات على صدور الطرقات... دم الأنبياء..." (53).

طغت الجموع في هذا المقطع بوجود 8جموع تكسير و 3جموع مؤنثة سالمة ما يعني أنّ هناك ترتيبا إيقاعيا تحركه الشاعرة وفق رؤيتها وتجربتها الشعرية، فالنَّص عبارة عن قصيدة النثرية،وهذا التكرار ليس اعتباطيا بقدر ما هو ورقة "إيقاعية" وظفتها الشاعر لتحريك النص و تفعيله .
ج/- تكرار المكون النحوي: إنَّ التشابه الحادث في مكونات الجملة الشعرية النحوية، يمكن أن يكون شكلا إيقاعيا إذا تكرر وفق نسق يحدث أثرا موسيقيا، هذا التشابه الذي يحدث نتاجا لأشكال من التوازي التي تتناسب فيتحول بها الكلام إلى هيئة من "الإيقاع" المتشكل من انتظام عناصره على أنحاء متشابهة.
وما يمكن رصده من أشكال هذا "التكرار"، تكرار التراكيب النحوية كالجمل الفعلية والاسمية و وظائفها ، إضافة إلى التراكيب الإضافية، والنعوت، وتركيب الجر...كلها مكونات نحوية تؤثِّث المستوى الإيقاعي والدلالي للنَّص، وتجعل من تكرارها أثرا يقف عليه المتلقي/ الدارس ولا يعني هذا إغفال النثر، فقد اهتم الدارسون به << في النصوص السردية والنثرية، كما في النصوص الشعرية..>> (54).
أكتفي في هذا الشأن بنموذج لتكرار المكون النحوي ممثلا في تكرار "الجملة الفعلية"، حيث حفل به نصّ (انتخاب) لــ:"زهرة بلعاليا" :
"قالت الدودةُ يوما للغراب:
أشتهي فتح عيون بدياري أرقب منها السحابْ
فافتني في أي وجه سأكون؟
....................
قال طيرُ الشؤم في مكر :
صدقتِ
وأرى :
لو أنا أجرينا انتخابْ!
........................
قالت الدودةُ في حزن عقيم:
أدرك الآن كثيرا من أمور الدنيا
لكنْ.......
......................" (55)

فكل الجمل الفعلية الموظفة في هذا المقطع متعدية، تفسح المجال لمزيد من الحراك الإيقاعي، وتجعل باب تفاعل المتلقي/ القارئ مع النَّص منتجا، يشعره بكثير من اللّذة، وبشيء من الرغبة في دفع هذا النسق الإيقاعي الجهوري الذي هزهزته الجمل الفعلية المتواترة بشكل مطّرد .
3.1.1. الوظائف الأسلوبية للتكرار الإيقاعي: 
مما لا شكّ فيه أنَّ "الإيقاع" في الشعر قائم على التكرار، بل أنَّ تفعيلات بحور الشعر العربي تقوم على هذه الخاصية في أغلبها، كتكرار "فعولن" في "المتقارب" أو "فاعلاتن" في "الرمل"، ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد، فالتفعيلةُ نفسها قائمة على تكرار مقاطع متساوية مما يشكل توليفة موسيقية متناغمة و متناسقة في النَّص الشعري، فللشعر <<نواح عدة للجمال أسرعها إلى نفوسنا ما فيه من جرس الألفاظ وانسجام توالي المقاطع وتردد بعضها بقدر معين وكل هذا ما نسميه بموسيقى الشعر>> (56) ، فالإيقاع وفق هذا التّصور أكثر ما يعتمد على <<التكرار والتوقع، فآثار الإيقاع والوزن تنبع من توقعنا سواء كان ما نتوقع حدوثه يحدث أو لا يحدث>> (57).

إلاّ أن "نازك الملائكة" تعتبر "التكرار" أسلوبا مثل باقي الأساليب لا يحقق غايته إلاّ إذا وظّف أحسن ما يكون، وهو ما يعود إلى تجربة الشاعر،فقد يكون "التكرار" هنة ً أو مطبًّا يُفقد النَّص جماله ، ويضع الشاعر في مأزق
لأنَّه << يمتلك طبيعة خادعة فهو على سهولته وقدرته في إحداث موسيقي يستطيع أن يضلل الشاعر ويوقعه في مزلق تعبيري، فهو يحتوي على إمكانيات تعبيرية تغني المعنى إذا استطاع الشاعر أن يسيطر عليه ويستخدمه في موضعه وإلا فإنه يتحول إلى مجرد تكرارات لفظية مبتذلة>> (58).
و لا يقتصر أثر "التكرار" في "الإيقاع" فحسب، وإنما يتعداه إلى صياغة المعنى، والحفر في الدلالة، وتنويع المعجم الشعري ودلالاته وإن كان في شكله السطحي لا يعدو كونه تكرارا، فإنه لا يكرر المعنى نفسه، و إنما يعطيه دلالة أعمق و أكثر إيغالا في المعنى مما يحمل دلالات و إشارات مختلفة ليست هي نفسها بالضرورة، وإنما قد تكون انعكاسا لحالة شعرية تقتضي الوقوف عليها.

وهكذا << نتبيَّن أن من خصائص التكرار خلق جمالية المخالفة، إضافة إلى ما يحققه من مؤالفة و إعادة، فالعناصر المعادة فيه تُظهر الاختلاف في ما هي تُفصح عن المتشابه ، تؤلف المفترق فيما هي تجمع المختلف..>>(59) .


يتبع...

بقلم الدكتور: بشير ضيف الله.

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏‏‏جلوس‏، و‏‏شاشة‏، و‏مكتب‏‏‏ و‏منظر داخلي‏‏‏‏