القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

دراسات نقدية للدكتور: بشير ضيف الله/ إيقاعُ الصوت في البنية الشعرية عن: بنية الإيقاع الشِّعري و أشكالهُ الأسلوبية

1. إيقاعُ الصوت في البنية الشعرية:


للأصوات دور " بالغ الأهمية بوصفها المادة الأولى لتأليف أشكال هذه الموسيقى بما يمتلكه كل صوت من صفات خاصة مستقلة.." (1) ، فالصَّوتُ من المتعلقات الأشد وثوقا و الأكثر هيمنة على "الإيقاع"،ولا يقتصر الأمر على الأثر الأدبي فحسب بل يتعداه إلى الفنون برمتها، فهي " سلسلة من الأصوات ينبثق عنها المعنى"(2) ، و"الصوت" ليس ظاهرة "أكوستيكية" أو ظاهرة عددية ،بل فاعل بنائي في المضمون(3) يتجسد معنى.
إن<<الكلمات التي هي عبارة عن مجموعات صوتية تقوم على بناء مزدوج إنما هي أصوات..>> (4) ، أي أنَّها رموز للمعاني وفي الوقت نفسه شكل من أشكال "الإيقاع"، وعليه فالصوت –حسب "هيجل" - <<يجب أن يظهر متشكلا بأسلوب حي ومن الواجب اعتباره كهدف في حد ذاته، مهما اعتبر في الشعر كوسيلة خارجية ومن ثم يخضع لقواعد الإيقاع>>(5) ، فالتصاوت الذي يحدث بين الحروف وكذلك بين الحركات، وما يفرضه النَّص الشِّعري من رويٍّ ومجرى كلُّها ظواهر صوتيَّة لها دلالاتها على اعتبار أنَّ النسيج الصوتي فاعل دلالي ، فقيمة المادة الصوتية تجسد قيمة الصوت النظمية(6)، القيمة التي تسجلها الترددات في النَّص:

1.1. إيقاعُ التوازي:

يعرِّفه "جون كوهين" بأنَّه:
<< خطاب يكرر كلا أو جزء نفس الصورة الصوتية>> (7) ،‏ فهو تقنية قائمة على تكرار أو ترديد وحدة أو وحدات صوتية بعينها تُحدث حراكا إيقاعيا لافتا.
ومما لابدَّ التذكير به ،هو أنَّ " التوازي" يقوم على عنصرين أساسيين هما "التماثل و الاختلاف" ، ممَّا يعني أنه أشمل من "التكرار" القائم على عنصر "التطابق" الذي لا يعني " التماثل" في كل الأحوال، لأن <<التوازي تماثل وليس تطابقا>>(8) ، فإذا كان كل تطابق تماثلا، فليس كل تماثُل تطابقا، غير أن هذا الفرق بين المصطلحين لا يؤدي بالضرورة إلى الفصل بينهما على مستوى النَّص في كثير من الأحيان-خصوصا و أن هذه الفصل بين مكونات الخطاب الشعري في الدرس النَّقدي ضرورة المنهجية فحسب- لدرجة أنَّ :
<<بعض الصور التي نصنفها - حسب تداولها في الدرس النقدي - ضمن أنماط التكرار تثيرنا بما فيها من تواز واضح، كما أنَّ التكرار قد يكون أساساً في قيام الكثير من الصور التي نصنفها ضمن أنماط التوازي>>(9).
وعليه فإنَّ هذا العنصر كثيرا ما يتشابك في النَّص مع تكرارات كلية أو جزئية في صور صوتية مختلفة كالطباق، و السَّجع، و التصريع، والمقابلة... وهي كلُّها تمثل ترددات صوتية دلالية لها أثرها باعتبار "التوازي" محدِّدا قائما على الاهتمام << بأية مشابهة وبأي اختلاف يدرجان بين الأزواج المتجاورة للأبيات و بين الأشطر ضمن نفس البيت>>(10). و إذا كان "التوازي" أشكالا متعددة منها " الدلالي" ، و"التركيبي"، و "الصوتي"، فإنَّ الشكل الأخير هو الذي يعنينا في هذه الدراسة، لتركيزه على << التماثلات الموقعية بين الشطرين مع تكرار حروف أو كلمات بعينها كأنْ تكون في بداية الكلام أو البيت الشعري أو أن تكون في العناصر المتصرفة أو المنبورة >>(11) ؛ واشتماله على "التصريع" و "الجناس" و "السجع"، و "التَّصدير" وهي عناصر تكثيف صوتيّ / إيقاعيّ بامتياز.
إنَّ الوزن و القافية ليسا محددين مقدَّسين، بل أن الإيقاع يتولد << من تكرار كلمات معينة في مواقع مختلفة كالجناس والترصيع والتصدير والترديد وغيرها.
هذه التكرارات الاختيارية تتداخل مع بعضها لتشكل مزيجا صوتيا يسهم في المقومات الصَّوتية الإجبارية للقول الشعري في اكتمال شكل الإيقاع الذي يسيطر على الشاعر>>(12).
إن "التوازي الصوتي" عامل إجرائي مهمٌّ يرصد أثر العلاقات الصوتية في ترابط البنى الشعرية المختلفة وإمكانيات تعاضدِها صوتا ودلالة ً لصالح النَّص، فهو <<عنصر تأسسي وتنظيمي في آن واحد>>(13) خصوصا و أنَّ القصيدة << هي ذلك التردد الممتد بين الصوت والمعنى>>(14).
في (مقاطع للحزن و أخرى للأمل) يجسّد "سليم دراجي" شكلا من أشكال "التوازي الصَّوتي" بقوله:
"أيُّ بوصلةٍ ترشد المنزوي في ظلام القبورْ؟ أيّ ليلٍ يمدّ مخالبه نحونا كي يشكلنا نقطة للعبورْ؟
أيّ مهزلة صنعتها عجوزٌ
أقامت من الرقص موسمها
أيّ مهزلة صنعتها عجوزٌ أقامت من الرقص موسمها حينما رقص الكأس في رأسها فانتهت تحت فرط الغرور؟!!(15)
يعبّر الشاعر في هذا المقطع عن حالة من الخيبة والإحباط بحيث يتصاعد هذا الشعور ويتعاظم بتوازي الأسطر الشعرية التي اعتمدت على العناصر الآتية:
"أيّ الاستفهامية+مضاف إليه+فعل.." وعبْر هذا "التوازي" الذي كرره الشاعر في أغلب الأسطر الشعرية استطاع خلق دلالة إيقاعية متصاعدة ترصد حالة الخيبة الشديدة بدلالات جديدة عند كل تساؤل ليبلغ الذرة في السطر الأخير.
و في (شظايا الذي لم يقل للقراصنة مرحبا) نوَّع "عياش يحياوي" يتمثّل التوازي الصّوتي باعتماد جملة "تقُولين" المكونة من " فعل القول + فاعل + +مفعول منتظر(مقول القول) " في النّوع الأول ، و" فعل القول + فاعل + استفهام " في النّوع الثاني وهو ما نُسجله بوضوح في قوله :
"تقولين مرّ كأجنحة الطّير ........................النوع الأول مرتبكا بالفضائح والورد ..إلاّ قليلا
تقولين أيُّ النساء سيوقفن هجرته....................النوع الثاني وبأي الظفائر يُطفي الصّهيلا؟
تقولين لم يكتملْ،...................................النوع الأول
مالذي هزّ أضلاعهُ وأضاء السّبيلا؟................النّوع الثاني
تقولين أشياء يصعبُ أن تُتهجى ...................النوع الأول
ولكنّ لي رغبةٌ في التعرّي على غصن أسطورةٍ في بلادي و أُشهر من غِمْدها المستحيلا..." (16)
إنَّ الشَّاعر يستغلُّ كل الممكنات الصوتية التي من شأنها إعطاء الوقْع المفترض لنصه، وهو في هذا العنصر يشتغل على الكلمات ذات <<الخواص الحسية لأصواتها وجرسها>>(17) لإنتاج فائض المعنى من خلال ما تكتنزه الأصوات من زخم إيقاعي لكونها << غنية بالقيم الترابطية والتعبيرية التي يستطيع الفنان استغلالها >>(18).
والشِّعرُ ليس << هو المجال الوحيد الذي تخلق فيه رموز الأصوات وآثارها، وإنما هو المنطقة التي تتحول فيها العلاقة بين الصوت والمعنى من علاقة خفية إلى علاقة جلية و تتمظهر بالطريقة الملموسة جدا والأكثر قوة ..>> (19).
ولا يجب إغفال أن قوة الصوت كالتنغيم مثلا، من شأنها إعطاء بعد دلالي و إيقاعي في الوقت نفسه بما تحمله من إحالة على الموقف/الحالة الشعرية إذْ أنَّ <<المنحنى البياني الذي يسجله الصوت، يختلف في الواقع اختلافا ملحوظا حسب المعنى والخطاب. فالتنغيم دال إذن، أي أنه يقوي هذه الاختلافات لتبين بشكل أحسن اختلاف المدلولات، وهكذا سيتعارض الاستفهام والإثبات ليس ببناء الجملة فحسب ولكن بالتنغيم أيضاً..>> (20).
إن الصّوت كخط فيزيائي لا يتناقض وكونه دالا يؤَثِّث معنى المتن الشِّعري، و يفعِّله ضمن عمليَّة خلق القصيدة كحالة استثنائية قائمة على الحراك والتحول ، هذه الحالة التي << تبدو في خصائصها الداخلية على شيء من التشابك والتعقيد، هي الخطوة الأكثر دقة وأهمية في تشكيل العمل الشعري وتأسيس جذوره الإيقاعية، لأنَّ هذا التسلسل في تطور مراحل الصوت اللغوي بواقعه الإيقاعي والدلالي الذي يكتسب فيه على الدوام صفات جديدة، هو بالذات العنصر الذي يسهم في إعطاء النص الشعري وإيقاعه هويته المحددة..>> (21) ، فالصوتُ في هذه الحالة سمةٌ إيقاعية للنَّص الشعري بامتياز.

للكاتب والناقد الجزائري: بشير ضيف الله  


دراسات نقدية للدكتور: بشير ضيف الله/ إيقاعُ الصوت في البنية الشعرية عن: بنية الإيقاع الشِّعري و أشكالهُ الأسلوبية
للكاتب والناقد الجزائري: بشير ضيف الله