القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

ابو بكر الصديق وقتاله المرتدين.. د.صالح العطوان الحيالي

ابو بكر الصديق وقتاله المرتدين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د.صالح العطوان الحيالي - العراق- 21اب 2020

لم يكد نبأ وفاة الرسول مُحمَّد صلى الله عليه وسلم ينتشرُ في بِلاد العرب حتَّى اشتعلت الفتنة في كُلِّ أنحاء شبه الجزيرة العربيَّة بأشكالٍ مُختلفةٍ ولِأسبابٍ مُتباينةٍ، وبرزت ظاهرة التنبؤ كإحدى الانعكاسات للنجاح الإسلامي في الحجاز، وإن كان بعضُ المُتنبئين قد أعلنوا دعوتهم في أواخر حياة النبيّ. فادَّعى ذو الخِمار عبهلة بن كعب العنسي، المعروف بالأسود العنسي، النُبوَّة في اليمن وارتدَّت معه قبيلة مذحج ومن يليها، وتنبَّأ طُليحة بن خُويلد الأسدي في بُزاخة وتبعه بنو أسد وغطفان وطيء والغوث ومن إليهم، وتنبَّأت سُجاح بنتُ الحارث التميميَّة ولحق بها بنو تغلب وناصرها بنو تميم، وتنبَّأ مُسيلمة بن حبيب الحنفي في اليمامة وتبعهُ بنو حنيفة، وادَّعى هذا الأخير مُشاركة الرسول مُحمَّد في النُبُوَّة وحاول مُساومتهُ في اقتسامِ المُلك والسِّيادة في شبه الجزيرة العربيَّة، وكذلك تنبَّأ ذو التاج لقيط بن مالك الأزدي في عُمان وغلب على أهلها، وطرد منها عُمَّالُ الخليفة أبي بكر. وكانت ثورة اليمن أعنف مظاهر الانتفاض على الدين الجديد في شبه الجزيرة العربيَّة خِلال أواخر حياة النبيّ، لكنَّ قبائل اليمامة وما جاور الخليجُ العربيّ، كانت تتهيَّأ للثورة على الدين الجديد، ومع أنَّ النبيّ لم يُغفل هذا التطوُّر السلبيّ في أواخر حياته، إلَّا أنَّ اهتمامه السياسيّ انحصر في الالتفات نحو الشمال من خلال تجهيزه حملة أُسامة بن زيد، إذ أمره أن يتوجَّه إلى تُخومِ البلقاء والداروم من أرض فلسطين بالشَّام، واعتقد بأنَّهُ إذا استطاع تحقيق الانتصار هُناك، فإنَّ ذلك من شأنه تقوية موقفه داخل شبه الجزيرة العربيَّة وبين قبائلها، وبخاصَّةً أنَّ الدعوة الإسلاميَّة انتشرت آنذاك في مُختلف أنحاء شبه الجزيرة من الشمال إلى الجنوب، ثُمَّ أنَّ خُروج أُسامة إلى وجهته يُعبِّرُ عن الإقلال من شأن هؤلاء الخارجين والمُرتدّين، وخطرهُم، ولا شكَّ بأنَّ هذه السياسة تُعطي المُسلمين دفعًا معنويًّا لِمواجهة الخارجين والمُرتدين في اليمن واليمامة وغيرها من أقاليم شبه الجزيرة العربيَّة. 
رسالة الرسول مُحمَّد صلى الله عليه وسلم إلى مُسيلمة الكذَّاب.
كان المُتنبئون آنذاك يتهيأون للجهر بدعوتهم آملين بأن تحل بالمُسلمين نكبةً ما، وأخذوا يُبشرون بها، كُلٌّ في ناحيته بهُدوءٍ وأناة، دون أن يطعن أحدٌ منهم بصحَّة نُبُوَّة مُحمَّد، وإنما ساووا أنفسهم به، فهو نبيّ وهُم أنبياءٌ مثله بُعثوا في أقوامهم، كما بُعث هو في قومه، فأرسل مُسيلمة بن حبيب الحنفيّ إلى الرسول يقول: «مِنْ مُسَيْلَمَةَ رَسُوْلِ الله إِلَىْ مُحَمَّدْ رَسُوْلِ الله، سَلَامٌ عَلَيْكَ فَإِنِّيْ قَدْ أَشْرَكْتُ فِيْ الأَمْرِ مَعَكَ، وَإِنَّ لَنَا نِصْفَ الأَرْضِ وَلِقُرِيْشَ نِصْفُ الأَرْضِ، وِلَكِنَّ قُرَيْشًا يَعْتَدُوْن». فردَّ عليه النبيّ: «، مِنْ مُحَمَّدْ رَسُوْلِ الله إِلَىْ مُسَيْلَمَةَ الكَذَّابْ. سَلَامٌ عَلَىْ مَنْ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْد، فَإنَّ الأَرْضَ لِله يُورِثَهَا مَنْ يَشَاْءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ للمُتَّقِيْن». وتمادى المُتنبؤن حين امتدَّت أيديهم إلى التشريع. من ذلك أنَّ مُسيلمة الكذَّاب شرَّع لأصحابه أنَّ من أصاب ولدًا واحدًا عقبًا لا يأتي امرأة إلى أن يموت ذلك الابن، فيطلب الولد حتّى يُصيب ابنًا ثُمَّ يُمسك. فحرَّم بذلك النساء على من له ولدٌ ذكر. وادَّعى المُتنبؤن بأنَّ الوحي ينزل عليهم من السماء، وحاول بعضهم التشبُّه بالإسلام، فعمد بعضهم إلى اتخاذ بيتٍ حرامٍ يُنافسون به البيت الحرام في مكَّة. من ذلك أنَّ مُسيلمة الكذَّاب ضرب حرمًا في اليمامة نهى النَّاسُ عنه وأخذ النَّاس به، فكان مُحرَّمًا
اسباب التنبؤ
ـــــــــــ كان وراء بُروز ظاهرة التنبؤ عدَّة أسباب، منها ما هو سياسيّ ومنها ما هو اجتماعيّ واقتصاديّ. فالمناطق التي انطلق منها المُتنبؤن، كانت أكثر مناطق شبه الجزيرة العربيَّة تحضُّرًا وأضخمُها ثروةً، كما كانت مُجاورةً لأراضي الفُرس الساسانيين، أو كان للفُرس فيها نُفوذ. وقد اعتمد المُتنبؤن على الناحية العصبيَّة، وبخاصَّةً ما كان بين اليمنيَّة والمضريَّة من عداوة راسخة الجُذور، بالإضافة إلى التنافُس بين ربيعة ومَضَر. ويرتبط بالعصبيَّة القبليَّة ما ينتج عنها من تحاسُدٍ وتنافُسٍ بين القبائل العربيَّة والتَّسابق في ادِّعاء النُبُوَّة. إذ أنَّ النجاح الذي حقَّقهُ النبيُّ في حياته، والمكانةُ التي وصلت إليها قُريش في شبه الجزيرة العربيَّة، عند وفاته، غدت مثار حسد كافَّة القبائل العربيَّة، ولم تلبث أن أضحت سيرةُ النبيِّ مثلًا يُحتذى لِتحقيق نوعٍ من الأهميَّة والزَّعامة في مُجتمعٍ يُمجِّدُ الأبطال. والواضح أنَّ كثيرًا من الأفراد في المُجتمع العربيّ كانوا طُلَّاب زعامة ورئاسة، فأرادوا الاقتداء بالنبيّ لِتحقيق تطلُّعاتهم، فحاولوا التشبُّه به في ما أوحي إليه من القُرآن، فأتوا بِعباراتٍ مسجوعة مُفكَّكة المعاني، ركيكة المضمون وقالوها على مسمعٍ من قومهم. 
تفجَّرت ظاهرة التنبؤ في بلادٍ وعلى أيدي أفرادٍ عرفوا المسيحيَّة وسمعوا بها، أو اعتنقوها أو اشتهروا بالكهانة. فقد ساد شبه الجزيرة العربيَّة آنذاك باستثناء الحجاز، اضطرابٌ دينيٌّ بِفعلِ عدم استقرار العقيدة في النُفوس. فالمسيحيَّة واليهوديَّة والمجوسيَّة والوثنيَّة، تجاورت كُلَّها في ظلِّ نقاشٍ جدليٍّ في أيٍّ منها تُحقِّقُ السعادة لأتباعها، ممَّا مهَّد الطريق أمام المُتنبئين للظُهور واستقطاب النَّاس بِكلامٍ مُنمَّقٍ، وبِمظاهر يتخذونها آيات صدقهم، واستطاعوا بهذه الوسيلة أن يُحققوا نجاحًا مبدئيًّا. ذلك أنَّ المسيحيَّة انتشرت في شبه الجزيرة العربيَّة قبل الإسلام عن طريق الأحباش في الجنوب والعرب الأنباط والروم والسُريان في الشمال. وكان ملك اليمامة هوذة بن عليّ الحنفيّ نصرانيًّا أرسل إليه الرسول مُحمَّد سليط بن عمرو العامريّ يدعوه إلى الإسلام. ثُمَّ أنَّ العرب شأنهم في ذلك شأن مُعظم الشُعوب الوثنيَّة عرفوا الكهانة وبِخاصَّةً عرب الجنوب، أي قوم حِمير، ومن أبرز كهنتهم «طريفة الخبر» التي تنبأت بأخبار سد مأرب، وسُطيح الغسَّاني، وغيرهما. فادَّعى بعضُ الكُهَّان أنَّ نُفوسهم قد صفت واطَّلعت على أسرار الطبيعة، وادَّعى آخرون أنَّ الأرواح المُنفردة، وهي الجن، تُخبرهم بالأشياء قبل حُصولها. وحصل تقاربٌ بين المسيحيَّة والكهانة عند العرب في الجاهليَّة، هذا على الرُغم من أنَّ أدعياء النُبُوَّة اختلفوا عن الطرفين في اتباعهم أُسلوب النبيّ مُحمَّد في سيرته وأقواله وأفعاله، فادَّعوا أنَّهم أنبياء، وأنَّ الوحي ينزلُ عليهم، وشرَّعوا لأتباعهم، وطالبوا لأنفسهم بسيادة وزعامة عليهم. 
اعتمد المُتنبئون على العامل الإقليميّ. فقد استغلَّ الأسود العنسي استياء اليمنيين من الفُرس ونُفورهم من الحجازيين، إذ كان للفُرس نُفوذٌ كبيرٌ في اليمن نتيجة زواج الجُنود الفُرس باليمانيَّات، وكان أبناء هؤلاء من أبناء الطبقة الإداريَّة المُتفوِّقة التي يستعينُ بها أهلُ اليمن، وقد حالف هؤلاء اليهود من أصحاب رؤوس الأموال، ولمَّا ضاق اليمنيّون ذرعًا بالضرائب الكثيرة المفروضة واستغلال طبقة المُرابين الذين كانوا يشترون المحاصيل قبل نُضجها بأسعارٍ مُتدنِّية، حوَّلوا غضبهم إلى الفُرس ووقفوا ضدَّ الوُجود الساساني ببلادهم. وفي هذه الأثناء كانت الدولة الإسلاميَّة قد أصبحت تُتاخم اليمن بعد أن فُتحت مكَّة سنة 8هـ المُوافقة لِسنة 630م، وأخذ عُمَّالُ الرسول مُحمَّد يصلون إلى اليمن، يُبشرون بالدين الجديد، كما أنَّ وُفودًا من أهل اليمن بدأت تتوجَّه نحو المدينة المُنوَّرة، لِتُعلن دُخولها في الإسلام لِتعود ومعها عُمَّالُ النبيّ. ويبدو أنَّ الوُجود الإسلاميّ، وجمع الزكاة، واجها مُعارضةً من قبل بعض زُعماء القبائل، وأشارت الروايات إلى وجود تحرُّكٍ مُعارضٍ في منطقة حِمير، وأنَّ الصَّحابيّ معاذ بن جبل الذي بعثهُ الرسولُ قاضيًا إلى اليمن، قاتل هؤلاء المُنتفضين وانتصر عليهم. بناءً على هذه المُستجدات، استغلَّ الأسود العنسي الظروف وكتب إلى العُمَّال المُسلمون يُنذرهم فيها أن يرُدّوا ما بأيديهم إذ أنَّه هو أولى به، وأعلن حركته الانفصاليَّة، وكانت تلك أوَّلُ ظاهرةٍ لِفتنته. وبعد أن وثق من قوَّته، هاجم مدينة نجران واستولى عليها، وانضمَّ أهلُها إليه، ثُمَّ سار إلى صنعاء ودخلها بعد أن قتل عاملها، ففرَّ المُسلمون منها ومعهم معاذ بن جبل، وأخذ العنسي يدعو إلى نفسه بعد هذه الانتصارات.
شجَّعت ثورة الأسود العنسي قبائل اليمامة وبني أسد على الاقتداء به إثر وفاة النبيّ مُحمَّد. فقد كان كُلٌّ من مُسيلمة وطُليحة يخشى قُوَّة المُسلمين المُتنامية، ويرى أنَّهُ لا قِبَل له بِمُقاومتها، لذلك لم يُعلن ثورته مُبكرًا. ولمَّا تجرَّأ الأسود العنسي على إعلان دعوته، ورفع راية العِصيان، وحاز من النجاح ما أثار مخاوف المُسلمين، اقتدت قبائل اليمامة به وشجَّعها على ذلك أنَّ النبيّ توفي في ذلك الوقت شكَّلت ظاهرة التنبؤ إحدى الانعكاسات التي أحدثها فتحُ مكَّة، وانتشارُ الإسلام في أجزاءٍ واسعةٍ في شبه الجزيرة العربيَّة، وتوسيع نُفوذ الحُكومة المركزيَّة في المدينة المُنوَّرة. ذلك أنَّ هذا التطوُّر الإسلامي أثار عمليَّاتٍ مُشابهة، مُتوازية ومُتزامنة في أنحاءٍ مُتفرِّقة، حيثُ بدأت تنشأ تحالُفاتٍ قبليَّةٍ واسعة يتزعَّمُها أُناسٌ يدَّعون النُبُوَّة اقتداء بالنجاح الذي حقَّقهُ النبيّ مُحمَّد، أدّى فيها التطوُّر الإسلامي دور الباعث والمُحرِّك
المرتدين هم اول من بدا الحرب
ــــــــ بعد مُبايعة أبي بكرٍ بالخِلافة، أخذت الأخبار تردهُ من كافَّة أنحاء شبه الجزيرة العربيَّة عن ارتداد الأعراب بزعامة عددٍ من الكهنة والمشايخ، فبلغه ارتداد بني أسد بِقيادة طُليحة بن خُويلد الذي ادَّعى النُبُوَّة، وبني فزارة بِقيادة عُيينة بن حصن، وبني عامر وغطفان بقيادة قرَّة بن سلمة القُشيري، وبني سُليم بِقيادة الأشعث بن قيس الكِندي، وبني بكر بن وائل في البحرين بِقيادة الحكم بن زيد، وبني حنيفة بِقيادة مُسيلمة بن حبيب الحنفيّ الذي ادَّعى النُبُوَّة. فما كان من أبا بكرٍ إلَّا أن قرَّر التصدّي لِهذه الحركات الارتداديَّة بِالقوَّةِ والحزم، وبخاصَّةٍ بعد وُرُود أنباء عن تحفُّز القبائل لِشن هُجومٍ واسعٍ على المدينة المُنوَّرة وتدمير القاعدة المركزيَّة للدين الإسلامي. ورُبَّما شكَّل الحديث النبويّ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» دافعًا إضافيًّا لاتخاذ هذا القرار. بالإضافة إلى ذلك، كان لأبي بكر موقف من الذين امتنعوا عن دفع الزكاة، وفرَّقوا بينها وبين الصَّلاة، إذ يُنسب إليه قول: «وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ لَقَاتَلْتُهُمْ». والواضح أنَّ أبا بكر أدرك أنَّ الزكاة هي التجسيد الملموس، ورُبَّما التجسيد الماديّ الوحيد، لِوحدة القبائل، وهي العلاقة الوحيدة التي يُمكنُ لها أن تربط فيما بينهم. فكُلُّ قبيلة كان يُمكنُ لها تُصلّي وراء إمامها ويقتصر الحال على هذا، في حين تتطلَّب الزكاة نوعًا من العلاقة المُتبادلة والتنظيم المركزيّ لِجمعها وصرفها. من هُنا أصرَّ أبو بكر على ضرورة استمرار القبائل في دفع الزكاة. 
لكن قبل ذلك، قرَّر أبو بكر تلبية رغبة الرسول مُحمَّد قبل وفاته، أي إرسال جيش أُسامة بن زيد إلى مشارف الشَّام لِمُحاربة الروم والإغارة على القبائل الشاميَّة على الطريق التجاريّ بين مكَّة وغزَّة. والمعروف أنَّ هذا الجيش كان مُعسكرًا في الجرف، من أرباض المدينة، حين توفي النبيّ، وبويع أبو بكر، فتوقَّف عن الزحف. ويبدو أنَّ أُسامة أدرك حرج موقف الخليفة والمُسلمين في تلك المرحلة الدقيقة التي تتطلَّب تجميع القوى الإسلاميَّة وحشدها، وبِخاصَّةٍ أنَّ جيشه البالغ سبعمائة (700) مُقاتل ضمَّ غالبيَّة المُهاجرين والأنصار ومن كان حول المدينة من القبائل. وأبدى بعضُ الصَّحابة تحفُظًا على إرسال هذا العدد الكبير من المُقاتلين إلى خارج المدينة في ظل أجواء ثورات القبائل والمُرتدين، لكن أبا بكر أبى أن يُخالف وصيَّة النبي،[35] فقال: «والله لا أُحِلُّ عُقْدَةً عَقَدَهَا رَسُوْلُ الله ، وَلَوْ أَنَّ الطَّيْرَ تَخَطَفُنَا، وَالسِّبَاعَ مِنْ حَوْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَوْ أَنَّ الْكِلَابَ جَرَّتْ بِأَرْجُلِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، لَأُجَهِّزَنَّ جَيْشَ أُسَامَةَ». ثُمَّ نهض أبو بكر بنفسه في أواخر شهر ربيع الأوَّل سنة 11هـ المُوافقة لِسنة 632م، واستعرض جيشُ أُسامة بن زيد وأمرهُ بالمسير، فنفَّذ الأمر، وخَلَت المدينة في غُضون ذلك، من المُدافعين عنها باستثناء بضع مئاتٍ من المُهاجرين والأنصار. الواقع أنَّ خُروج أُسامة بن زيد إلى الشَّام قد شتَّت القوَّة الإسلاميَّة النامية ممَّا شجَّع الخارجين على مُهاجمة المدينة، فقام طُليحة الأسدي بنشر أتباعه حولها، فأقام بعضهم في ذي القصة شرق المدينة، بقيادة حبَّال بن طُليحة، وأقام بنو مرّة بالأبرق في منازل بني ذبيان وكانوا بِقيادة عوف بن فُلان بن سِنان. وكان بنو عبس وبكر يقفون إلى جانب هؤلاء المُرتدين. ثُمَّ أرسلوا وفودًا منهم إلى المدينة المُنوَّرة ليُفاوضوا أبي بكرٍ الصدّيق على أساس أن يُقيموا الصلاة ولا يؤتوا الزكاة، واطَّلعوا في غُضون ذلك على الوضع الداخلي في المدينة ممَّا دفع أبا بكر إلى تنبيه المُسلمين كي يأخذوا حذرهم. وأشار بعضُ المُسلمين وفيهم عُمر بن الخطَّاب بِقُبول طلب المُرتدين حقنًا للدماء ومنعًا للحرب، لكنَّهم جوبهوا بموقف أبي بكر الصلب، فأصرَّ على مُقاتلة كُلِّ مُرتدٍّ لا يؤتي الزكاة، قائلًا أنَّهُ سمع من الرسول مُحمَّد قوله: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»، وأنَّهُ لن يخرُج عن ما قاله الرسول. وعاد وُفود أهل الرِّدَّة إلى مُعسكرهم بعد أن رفض أبو بكر طلبهم فيما يختص الزكاة، فأخذوا يُشجعون قومهم على غزو المدينة بعد أن لمسوا قلَّة الجُند فيها وإمكانيَّة دُخولها.
وكان أبو بكر مُستعدًا لأيِّ هُجومٍ قد يشُنُّه أهلُ الرِّدَّة فأخذ يُقوّي دفاعات المدينة، وعهد إلى عليّ بن أبي طالب والزُبير بن العوَّام وسعد بن أبي وقَّاص وعبدُ الرحمٰن بن عوف وعبدُ الله بن مسعود، لِحراسة الطُرق الجبليَّة المُحيطة بها، فكانوا يبيتون مع رجالهم خارج المدينة استعدادًا وتأهُبًا. وبعد ثلاثة أيَّام أغار أهلُ الرِّدَّة على المدينة المُنوَّرة ليلًا، وكان المُسلمون بانتظارهم فردّوهم على أعقابهم. ثُمَّ تبعهم أبو بكر أثناء الليل، وعلى ميمنته النُعمان بن مقرن المزني، وعلى ميسرته عبدُ الله بن مُقرن، وعلى السَّاقة أخوهما سُويد بن مُقرن، وفاجأهم عند الفجر ليُنزل بهم الهزيمة ويُولون الأدبار بعد أن قُتل حبَّال بن طُليحة على يد عُكاشة بن مُحصن. ونزل أبو بكر في ذي القصَّة، وكان ذلك أوَّل الفتح في حُرُوب الرِّدَّة. ووَثب بنو ذبيان وعبس على من ثبت من قومهم على الإسلام وقتلوهم انتقامًا لِفشلهم في غزو المدينة، فأقسم أبو بكر على قتل من كُلِّ قبيلةٍ من المُرتدين بمن قُتل من المُسلمين. ثُمَّ عاد أبو بكر إلى المدينة المُنوَّرة، وفي هذه الأثناء عادت حملة أُسامة بن زيد، بعد سبعين يومًا من خُروجهم، وخِلال طريقهم كانوا قد أوقعوا بقبائل من قُضاعة ارتدَّت عن الإسلام، كما أغار أُسامة على أبل في مؤتة وغنم غنائم كثيرة. ثُمَّ خرج أبو بكر في جمعٍ من المُسلمين، بعد أن استخلف أُسامة بن زيد وجيشه على المدينة لينال قسطًا من الراحة. ونزل بالأبرق حيثُ قاتل بني عبس وذبيان وطائفة من بني كِنانة وهزمهم، فانسحبت ذبيان وبني عبس إلى بُزاخة قُرب مكَّة وانضمَّت إلى طُليحة الأسدي، وبعد أيَّام عاد أبو بكر إلى المدينة المُنوَّرة وأخذ يُعد العدَّة للقضاء على حركات الرِّدَّة
الاستعداد للحرب 
ـــــــتــــت بعد أن استطاع المُسلمون بقيادة أبي بكر صدَّ الهُجوم على المدينة، وهزيمتهم لبني عبس وذبيان وبكر بن وائل في الأبرق. أجلى أبو بكر تلك القبائل عن الأبرق، وجعلها لخيل المُسلمين. كما جعل بلاد الرّبذة مرعى للناس، وصدقةً للمُسلمين. وبعد عودة أبي بكر للمدينة، انتظر عدة جيش أُسامة بن زيد الذي ما أن عاد حتى خرج به إلى ذي القصة، ووزَّع جُنده إلى 11 لواء جعل على كُلٍ منها أمير. خصَّ أبو بكر كُلَّ لواء من تلك الألوية بِقتال أحد القبائل المُرتدَّة، وأوصاها باستنفار من يمرون بهم من المُسلمين ليكونوا لهم عونًا في القِتال. 
جعل أبو بكر من المدينة مركزًا لقيادة جُيوشه، وقد كان أبو بكر قد أمر قادة الألوية بألا ينتقل أحدُهم من قتال جماعة إلى أُخرى حتى يستأذنه. كما أرسل مع كُل لواءٍ منها رسالةً تُقرأ على القبائل قبل قتالها، كان نصها كالتالي: « ، مِنْ عَبْدُ اللهَ بِنُ عُثْمَانَ خَلِيْفَةِ رَسُوْلِ الله إِلَىْ جَمِيْعِ مَنْ قُرِئَ عَلَيْهِ كِتَابِيَ هّذّا مَنْ خَاصٍ وَعَامٍ، أَقَامَ عَلَى إِسْلَاْمِهِ أَوْ رَجَعَ عَنْهُ، سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الهُدَى، وَرَجَعَ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالرَّدَى. وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إلَّا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَه. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه، أَرْسَلَهُ بِاْلهُدَى وَدِيْنَ الحّقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُوْن. وَلِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِيْنَ. يَهْدِيَ اللهُ مَنْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ وَضَرَبَ بِالْحَقِّ مَنْ أَدْبَرَ عَنْهُ وَتَوَلَّى. أَلَا إِنِّيْ أُوْصِيْكُمُ بِتَقْوَى الله، وَأَدْعُوْكُمُ إِلَىْ مَا جَاءَ بِهِ نَبِيِّكُمُ مُحَمَّد . فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ فَهُوَ ضَالٌّ، وَمَنْ لَمْ يُؤَمِّنُهُ اللهُ فَهُوَ خَائِفٌ، وَمَنْ لَمْ يَحْفَظُهُ اللهُ فَهُوَ ضَائِعٌ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقُهُ فَهُوَ كَاذِبٌ، وَمَنْ لَمْ يُسْعِدْهُ فَهُوَ شَقِيٌّ، وَمَنْ لَمْ يُرْزِقُهُ فَهُوَ مَحْرُوْمٌ، وَمَنْ لَمْ يَنْصِرَهُ فَهُوَ مَخْذُوْلٌ. أَلَا فَاهْدُوْا بِهَدْيِ اللهِ رَبِّكُمْ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ ، فَإِنَّهُ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِيْ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا. وَقَدْ بَلَغَنِيَ رُجُوْعُ مَنْ رَجَعَ مِنْكُمُ عَنْ دِيْنِهِ بَعْدَ الإِقْرَارِ بِالإِسْلَامِ، وَالعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ، اعْتِزَازًا باللهِ ، وَجَهَاْلَةً بِأَمْرِهِ، وَطَاعَةً لِلشَّيْطَانِ، وَالشَّيْطَانُ لَكُمْ عَدُوٌّ، فَاتَّخِذُوْهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوَ حِزْبَهُ لِيَكُنُوْا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيْرِ. وَبَعْدُ، فَقَدْ وَجَّهْتُ إِلَيْكُمُ فُلَانٌ فِيْ جَيْشٍ مِنْ المُهَاجِرِيْنَ وَالأَنْصَارْ ، وَأَمَرْتُهُ أَنْ لَا يُقَاتِلَ أَحَدًا حَتَّىْ يَدْعُوْهُ إِلَىْ اللهَ ، ويَعْذِرُ إِلَيْهِ وَيُنْذِرْ، فَمَنْ دَخَلَ فِيْ الطَّاعَةِ وَسَارَعَ إِلَىْ الجَمَاعَةِ، وَرَجِعَ مِنَ المَعْصِيَةِ إِلَىْ مَا كَانَ يَعْرِفُ مِنْ دِيْنِ الإِسْلَامِ، ثُمَّ تَاْبَ إِلَىْ اللهِ تَعَالَىْ وَعَمِلَ صَالِحًا، قَبِلَ اللهُ مِنْهُ ذَلِكْ، وَأَعَاْنَهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَبَىْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَىْ الإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ يَدْعُوْهُ فُلَانٌ وَيَعْذِرَ إِلَيْهِ، فَقَدْ أَمَرْتُهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ أَشَدَّ القِتَاْلِ، بِنَفْسِهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَنْصَارِ دِيْنِ اللهِ وَأَعْوَانِهِ، لَا يَتْرُكَ أَحَدًا قَدِرَ عَلَيْهِ إِلَّا أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ إِحْرَاقًا, وَيَسْبِيَ الذَّرَارِيَ وَالنِّسَاءَ، وَيَأْخُذَ الأَمْوَالَ، فَقَدْ أُعْذِرَ مَنْ أَنْذَرْ، وَالسِّلَامُ عَلَى عِبَادِ اللهِ المُؤْمِنِيْنْ، وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيَّ العَظِيْمِ.» وقد أمر أبو بكر قادته بقراءة هذا الكِتاب في كل مجمع، وأن يجعلوا الدَّاعية الأذان، فإن أذّن المُسلمون، فأذّن الناس كفّوا عنهم، وإلَّا قاتلوهم.
تكليف الألوية 
ــــــــــــ وزَّع أبو بكر ألويته لتشمل كافَّة المناطق التي أعلنت ردَّتها وثورتها على سُلطان المُسلمين في المدينة، فجعل اللواء الأول بِقيادة خالد بن الوليد وأمره بقتال طُليحة بن خُويلد الأسدي وبنو أسد، فإذا فرغ منه سار لِقتال مالك بن نويرة زعيم بني يربوع من تميم. وجعل اللواء الثاني بقيادة عِكرمة بن أبي جهل، ووجَّههُ لِقتال مُسيلمة بن حبيب الحنفي في اليمامة، وجعل اللواء الثالث لشرحبيل بن حسنة وجعله مددًا لِعِكرمة في قتال مُسيلمة، فإن انتهيا منه يلحق شرحبيل بقواته مددًا لعمرو بن العاص في قتال قضاعة. أمَّا اللواء الرابع، فجعله أبو بكر للمُهاجر بن أبي أمية المخزومي لِقتال الأسود العنسي في اليمن ثم لِقتال عمرو بن معد يكرب الزبيدي وقيس بن مكشوح المُرادي ورجالهما ومن بعدهم يُقاتل الأشعث بن قيس الكِندي وقومه. واللواء الخامس فكان لِسويد بن مقرن الأوسي لِقتال تهامة اليمن، والسَّادس للعلاء بن الحضرمي لِقتال الحطم بن ضبيعة زعيم بني قيس بن ثعلبة ومُرتدي البحرين. وكان اللواء السابع لحذيفة بن محصن لِقتال ذي التاج لقيط بن مالك الأزدي الذي تنبأ في عُمان، والثامن لعرفجة بن هرثمة ووجَّهه إلى بلاد مُهرة. كما وجّه ثلاثة ألوية للشمال، فجعل التَّاسع لعمرو بن العاص لقتال قضاعة، والعاشر لمعن بن حاجز السُلميّ لِقتال بني سُليم ومن معهم من هوازن، والأخير كان لخالد بن سعيد بن العاص ليستبرئ مشارف الشام
المصادر
1- العسقلاني 
2- الطبري -تاريخ الرسل والملوك
3- البلاذريّ، أحمد بن يحيى بن جابر بن داود -فتوح البلدان 
4- ابن منظور، أبو الفضل مُحمَّد بن مكرم بن عليّ جمالُ الدين الأنصاري الرُويفعيّ الإفريقيّ  لِسانُ العرب 
5- الكوفي، أحمد بن أعثم   كتاب الفُتوح 
6- ابن خلِّكان، أبو العبَّاس شمسُ الدين أحمد بن مُحمَّد بن إبراهيم بن أبي بكر البرمكيّ الإربليّ  وفيَّات الأعيان وأنباء أبناء الزمان 
7- شبارو، عصام مُحمَّد (1995م). الدولة العربيَّة الإسلاميَّة الأولى  
8- البداية والنهاية، ابن كثير
9- طقّوش، مُحمَّد سُهيل . تاريخ الخُلفاء الرَّاشدين: الفُتوحات والإنجازات السياسيَّة
10- الدُوري، عبدُ العزيز  مُقدِّمة في تاريخ صدر الإسلام
11 - الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزري


ابو بكر الصديق وقتاله المرتدين.. د.صالح العطوان الحيالي